عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Tuesday, May 24, 2011

عروسـة

"فوزية اتجوزت!!"

هكذا ظلت تفكر لنفسها حين رأت تلك الطفلة الصغيرة التي شبت فجأة عن الطوق فوجدتها أمامها عروس بهية الطلة

مازالت تذكر برائتها و هي تحكي لها ما بدا كتباشير قصة حب

مازالت تذكر بداية صداقتهما .. مازالت تذكر حين تحولت الصداقة إلى أمومة .. او الأمومة إلى صداقة .. هي لا تذكر الآن أيهما جاء اولاً

تابعتها بعينيها في ذلك الفستان القصير و هي ترقص بين رفيقات صباها .. مازلن هم نفس البنات الصغار اللاتي كن يضعن الشرائط البيضاء في ضفائرهن .. لم يطرأ عليهن أي تغيير!

هل حقاً كبرت هكذا؟ هل حقاً في خلال يومين تصير امرأة؟

هل سأفقد تلك الطفلة الصغيرة إلى الأبد؟

"باق من الزمن يومان"

رنت العبارة في عقلها فجزعت ... يا إلهي! يومان و لن أستيقظ على وجودها معي بالمنزل!! يومان و ستغيب بهجتها و بسمتها و حتى غضبها عن البيت!!

يومان و ستغيب الطفلة في رحلة - قصرت او طالت - و تعود بعدها إمرأة!! هل سأعرفها ساعتها؟ هل ستجد طريقها إلى ذراعي كما اعتدت أم ستضل عني طريق لذراعي الحبيب؟!!

يومان؟!!!!

مالها ترقص هكذا فرحة؟!! هل تفرح لتركها إياي بعد ان قدمت لها كل تملك من وجود في الحياة؟!

يا سلااااام!!! أتفرحين لقرب لقائك به ولا تبكين لبعدك عني؟!!!

هل حقاً تملكين ذلك القلب الجاحد؟!! و من أين لك به؟! هل لقنتك هذا الجحود؟ ام لقنك هو إياه؟!!

نقمت عليه أيما نقمة.. و غضبت منها شديد الغضب!!

اعتملت بداخلها مشاعر شتى .. غاضبة هي من تلك الصغيرة الجاحدة التي تترك قلبها و ضمّة ذراعيها لقلب رجل غريب و ضمّته .... التي تترك بيت أبيها الذي آواها و حرص عليها كل تلك السنوات و تستقبل بكل هذه الفرحة بيت رجل غريب

لم تقدر على تحمل تلك المشاعر وقت أطول .. فتوجهت إليها .. اقتربت من دائرة البنات الراقصات الفرحات - هؤلاء الجاحدات لأمهاتهن مستقبلاً - اللاتي يحاولن هباء جذبها لدائرة الرقص معهن  و معها و هن لا يدركن ما يعتمل في قلبها من رعب و فزع و على الطفلة الصغيرة .. و ما يزلزل كيانها من غضب تجاه المرأة التي ستعود لمنزلها ضيفة، متعجلة الرحيل دوماً .. "لا تحب البقاء بعيداً عن بيتها وقت طويل" .. تلك المرأة التي - مع رجل غريب - ستسرق منها طفلتها/صديقتها/ إبنتها إلى الأبد

نحّت جانبا في حدة كل تلك الأيدي الفرحة/الجاحدة التي تحاول جذبها للرقص .. مالكن فرحات هكذا بضياع ابنتي/صديقتي مني!! عليكن اللعنة جميعاً!! غداً - أيتها الجاحدات - تحرقن قلوب أمهاتكن بجحودكن و فراركن بنفس ذات الفرحة متسللات أثناء الرقص لبيوت بعيدة و أذرع رجال غرباء!!

اتجهت لها مباشرة غير عابئة بضجتهم و رقصهم .. انتزعتها من رقصها على تلك الأغنية السريعة الايقاع غير مفهومة الكلمات ..
مدت لها يديها بامتداد ذراعيها ... و ضمتها طويلاً طويلاً .. بكل ما أوتيت من عزم و من خوف و من حب و لهفة و افتقاد - بدآ مبكرا جدا - ضمتها طويلاً طويلاً

و لما تسارعت الدموع إلى عينيها .. شعرت بمزيد من الفزع على غياب طفلتها .. و مزيد من الحنق على الرجل الذي سيسرقها منها .. و مزيد من الإفتقاد و اللهفة

فنظرت إلى وجهها دامعة .. و استلبت ابتسامة من اعماق هلعها .. و انفجرت في زغرودة طويلة جداً

 

بنـت وحيــدة في بيـت الكُـوَّر

○"ماما .. انا عاوزة اروح بيت الكُوَّر" 

-" طيب خلصي أكلك الأول وبعدين نروح"

إلتهمتْ ما استطاعت إليه سبيلاً من الطعام .. و تقافزت فَرِحه متوجهة ناحية الملاهي و عينيها مركزة على بيت الكُوَّر المنشود

ظلت تتقافز طوال المسافة إلى الملاهي .. تملأ الفرحة خطواتها و عينيها و ملامحها الدقيقة

- " يلّا إدي عمو الفلوس"

ناولت "عمو" النقود بلا صبر تقريباً

توجهت مع امها ناحية البناء الإسفنجي الشبكي .. و بدأت القفزات تتناقص

و تبدلت فرحتها تردد .. و تضائل حجم الابتسامة على شفتيها

خلعت صندلها الوردي الصغير ذي الوردات البيضاء .. تخطت المدخل .. ثم توقفت

إلتصقت بالحائط الشبكي .. و بدأت في تردد تسلُق الدرجات الإسفنجية

درجة .. و أخرى .. ثم انزلقت راجعة لحائطها الإسفنجي و إزداد إلتصاقها به .. و اختفت الابتسامة تماما من ملامحها

- "وقفتي ليه يا حبيبتي"
 
○"...." ... و نظرة حائرة!

- "روحي يلّا إلعبي!"

○"أصل ... أصل البنت اللي هناك خبطتني!"

- "معلش هي ماتقصدش ..  لفي من حواليها و إلعبي إنتي"

و لما وجَدَتها صامتة لا تتحرك، إلتفتَتْ لي في ملل

- " سيبك منها و تعالي نروح نقعد"

* "لأ!" ثم وجهت كلامي إليها: *"يلا يا نونو روحي إلعبي يا حبيبتي"

سددت لي نظرة لم يكن ليفهمها - أبداً - سواي على وجه الأرض!

ألْغَتْ عِقدين أو أكثر من العمر .. و رأيتُ في المرآة .. تلك البنت الوحيدة في بيت الكُوَّر .. او على الشاطيء .. أو عند الأرجوحة .. او في فناء المدرسة ..

تقف حائرة .. تنتظر من يناديها لتلعب .. من يشجعها على اللعب .. من يهلل لها لو ارتفعت بها الأرجوحة، أو قفزت عالياً بلا خوف لتغوص بين الكوَّر ..

تنتظر من يخبرها انه لا داعي للخوف من بقية الأطفال .. و لا ضير إن لمسوها أو احتكوا بها! لا ضير على الإطلاق!!

تنتظر من يخبرها أنه لا ضير من مشاركة الغرباء في فرْحات صغيرة .. في لحظات من بعض لهو

تنتظر من يخبرها ألا تقلق من وجود آخرين في العالم!  و أنه ليس من الضروري ان تعرفهم جميعهم ..و أنهم مثلها .. صغار يمرحون .. و انهم قد يحبونها و يشاركونها اللعب!

*"يلّا يا حبيبتي .. يلّا .. إطلعي يلّا من هنا .. و إجري هناك بسرعة و بعدين اتزحلقي و ارجعي تاني .. يلّا"

غلّفتْ عبارتها بكل ما تملك من مرح .. و كل ما أوتيت من قوة .. و ارتدتْ افضل ما لديها من أقنعة الفرح .. و لونت عينيها ببريقه

طفقت تصفق لها مشجعة بأقصى ما لديها من عزيمة  .. و قدرة ... على التماسك!

و حين راودتها الابتسامة مرة أخرى .. و بدأت في حث خطواتها و نفسها المترددة على التقدم .. استمدت منها مزيداً من العزيمة .. و شجعتها بحرارة أكثر

-"تعالي بقى نروح نقعد وسيبيها هي هتلعب لوحدها"
*"لأ! خلينا معاها" 
-"ليه ماهي بتلعب أهي!!"
*"أصل انا كنت زيّها"

و أدارت وجهها بعيداً عنها .. مختبئة خلف مزيد من التشجيع و التصفيق .. محاولة مداراة تلك النظرة الحائرة على وجه البنت، التي مازالت - بعد كثير من الزمن - تنتظر ان يأتي أحدهم ليخبرها أنه ليس ضرورياً أن تعرف كل هؤلاء الغرباء من حولها .. و أبداً لن تعرفهم!

و أنها مازالت تنتظر أن يدعوها أحدهم لتلعب!

 

بنـت حـارتنـا

بلوزة خضرا فيها خطوط دهبي .. على جيبه حمرا او يمكن زرقا .. مش فاكرة

لكن اللي متأكدة منه الشعر الكستنائي الفاتح .. مِلبِّك صحيح و منعكش .. بس كان مضموم في ديل حصان .. و حتى التلبيكة ما خبتش انه في الأصل ناعم و ما خبتش لونه

و اللي برضه متأكدة منه العيون العسلية .. الشقية جداً .. يمكن شقية اكتر من نَطّتها قدامي فجأة

مدت لي ايدها بكيس مناديل .. ضحكت لها .. أصلي لقيت عينيها بتضحك اوي .. ضحكتني شقاوتها .. طبطبت عليها و قلت لها شكراً

مشيت انا و اصحابي ورحنا نقعد ع القهوة .. و قاعدين بنتكلم في السياسة - طبعاً! هو فيه غيرها اليومين دول!! - و منهمكين اوي

و لقيت ايدين بتتلف حوالين رقبتي .. و بوسة شقية بتتحط على خدي

و اتعلقت في رقبتي تبص لي و في عينيها، قبل شفايفها، أحلى ضحكة ممكن تقابل حد .. قعدت جنبي و علقت ايدها في دراعي .. جم بنات تانيين من سنها .. قعدوا يحكوا لي خناقة دارت بين اتنين منهم .. و مين امها ضربتها بسبب الخناقة دي .. و فضلنا نرغي انا و هم لحد ما صالحتهم على بعض

نسيت اصحابي .. و نسيت كنا بنقول ايه .. و حسيت اني قدهم .. كانت كل شوية تحط على خدي بوسة و تاخد قصادها شوية سنين لحد ما بقيت قدها بجد .. طولها .. من حارتها .. بقيت صاحبتها .. دخلت في حكاياتها .. ماهي  - وهم - ماكانوش عايزين غير كده! عايزين حد يسمعهم .. حد يضحك معاهم 

طبطبت عليها بإيدي .. حضنتني بضحكتها .. اخدتني من ايدي لبراءة كنت نسيتها .. أخدتني من ايدي لعالمها .. دقايق قليلين .. كانت بس عايزة تقول: "انا هنا، شايفاني؟!" .. و كنت شايفاها .. و لسه شايفاها

 قلت لهم "خلوا بالكم، اوعى حد يضحك عليكم! اوعى حد يقول لكم تعالوا معايا و تروحوا" .. حسيت بخوف عليهم .. صِعب عليا عمرهم اللي بيتبعتر مع تراب الحارات اللي بيلفوا فيها يبيعوا المناديل .. و فرحت لما عرفت انهم بيروحوا المدرسة .. قلت أهو شوية أمل، صحيح يمكن مش هيحييهم، لكن اكيد مش هيموتهم.

و انا ماشية سابت لي هدايا كتير .. حضن دافي .. خمس بوسات .. ضحكة شقية بصوت فيه بحة و أشقى منها في عيونها العسلية .. و منديل ريحته حلوة

بنــــات

د
د 
 للبنات حكايات .. و البنات حكايات
د
د 
ورا كل ضحكة حكاية
د
د
 ورا كل دمعة .. و كل فرحة .. و كل غضبة .. وكل خيبة أمل .. و كل نجاح 
 د 
د
  حكاية 
د
 د
 و حكايات البنات ما بتخلصش 
د
د
  يمكن كل مدة .. أحكيلكم منهم .. كام حكاية 
د
 د