عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Tuesday, November 1, 2011

حمى



تشعر بالحمى تتصاعد في جسدها بغتة و تدريجياً بخطى حثيثة... تتفكك اوصالها تمام و تشعر كأنها على وشك فقدان الوعي .. لا يبقيها واعية سوى ركوبتها الصغيرة .. تميل يميناً فتهتز معها فتفيق قليلاً... او يساراً فتنتفض كانها تستيقظ من كابوس...

تسيطر الحمى على ذكرياتها اولا .. فتفور تلك وتمور من الماضي السحيق.. تتذكر يوم أصابتها حمى مشابهة لتلك دون أي مقدمات و لا مبررات طبية واضحة او خفية .. هي وحدها كانت تعرف السبب .. 

كانت تكتم حباً فاض فصهر روحها و ثار على الجسد الضعيف يروم تصريحاً و إفصاحاً . .ولما لم يجد بياناً يفصح به، عربد في الجسد الضعيف حمى كاسحة.. يومها خافت أن تجري الحمى لسانها بما لا تستطيع معه إفصاحاً .. قاومت الإغماء و النوم و الغياب عن الوعي .. أو هكذا ظنت ساعتها .. كتمت حباً يفصح عن نفسه حمى .. و لما سمعت صوته يومها جرت دموعها دون صوت .. أججتها رنة القلق عليها في صوته .. ولما تحاملت على نفسها كاتمة الحمى و الحب سوياً لتذهب و تراه وسط الجمع المعتاد .. خذلتها عينيها .. فتوارت عنه معظم الوقت خلف نظارة سوداء .. و لما غابت الشمس .. انهارت قواها و فاضت دموعاً .. كفكفها بكلماته الرقيقة و لهفته البادية .. ولم تشف من تلك الحمى إلا يوم صرح لها  بحبه من بين ارتعاشات صوت مرتبك و عيون زائغة من الخجل و اللهفة .. فصار النيل يومها محيط لا يحمل على صفحته سواهما...  

لما تذكرت تلك الحمى .. اندهشت انها لم تصب بأي شيء حين مات الحب! هل كان الحب فيروساً تداعى له الجسد بالسهر و الحمى مقاومة و دفاعا عن القلب الغرير؟! ضحكت متعجبة من تلك التخاريف و لماذا تذكرتها الآن .. هل تشابهت عليها الحمى؟!

لا يمكن لتلك ان تشبه هذه بأي حال من الأحوال .. فاليوم لم يولد حب ولا مات .. فقط إنطفأ قنديل كانت تتجمع حول ضوؤه فراشات ملونة أحياناً .. و كثيرا بعوضات تلدغها لدغات مؤلمة .. كثيرا ماكانت تنير ذبالته جزء من احد جنبات الطريق .. ولكن ظلت بقية الطريق معتمة .. حاولت إذكاء جذوته .. و فشلت .. فانطفأ .. فمالها الحمى تغزو جسدها اليوم؟!

لمن تتصدى يا جسدي المثخن بالجراح؟ للجراح القديمة التي تستبيح الأيام نكأها .. أم لجراح جديدة مقبلة؟ 

تتذكر المقولة "جرح فوق جرح .. لا أدري أيهما أشد إيلاماً؟!*" فتفكر: حقأ أيهما أشد إيلاماً؟! الموت أم الحياة؟
تباً للحمى و تهريفها .. أين الحياة من راحة الموت؟ و أين نحن منها؟! 

تميل بها الركوبة فتنتفض كأنها تستيقظ من كابوس .. و هل حقا استيقظت؟ إذا لما لا ترى صورة للطريق ولا للسيارات و لا للعابرين؟ مالهذا الظلام يمتد و يترامى و يبتلع كل نور؟! تميل الركوبة مرة أخرى .. ولكنها لا تنتفض هذه المرة...


----
* محمد المنسي قنديل


اللقاء الأول

كانت تمشي في درب طويل .. وحيدة .. غير عابئة لا بطول الدرب ولا بوحدتها .. اعتادت الاثنين منذ زمن بعيد..
هي فقط تقف عند نافذة العرض تلك ترقب ما خلفها من "موديلات آدمية" .. ربما دخلت ذلك الحانوت او الذي يليه لتجرب أحدهم .. ذلك موديل صاخب الأفكار و الصوت .. و تلك موديل هادئة الطباع عاقلة صبورة .. وذلك أهوج .. وتلك بلهاء .. وغيرهم الكثيرين.. ذلك الموديل او تلك .. ثم تمضي في طريقها مرة اخرى ..

وحين كفت بالاهتمام بما تعرضه نوافذ الحوانيت من بشر .. او أنصاف بشر .. او أشباه بشر .. فكرت: و لم لا أجرب طريق آخر؟!
مضت تبحث عن طريق آخر ربما يحمل إليها بهجة مفتقدة .. او صديق حقيقي .. او ربما فرحة ان كانت محظوظة..

وجدت عدة طرق متشعبة و متقاطعة في نقاط مشتركة .. و أحلى ما في تلك الشبكة من الطرق تنوع الطبيعة فيها .. فذلك يمتد في صحراء ساحرة آسرة للروح .. و الآخر يمتد في زرقة لا متناهية ولا مُدْرَكَة تتلون بنور ذهبي تارة و ضياء فضي تارة أخرى .. و ذلك يمتد في لجّة لازوردية تتصنع الهدوء و تخفي في باطنها عالم صاخب في صمت .. 
سارت فرحة بين تلك الطرق .. تناست وحدتها .. صارت الحياة ممتلئة بالكثير من الحكايات و البهجات .. صغيرة حقاً .. قصيرة العمر حقاً .. كأعمار الفراشات .. و لكنها كانت تكفيها للاستمرار .. الاستمرار في تناسي الوحدة و التغاضي عنها .. و لو حتى ظاهرياً...

و في احدى التشعبات .. كان الطريق اكثر صخباً من المعتاد .. تكتنفه صنوف من بشر لم ترهم من قبل ..يصنعون ثورة .. يقدمون شهداء منهم كقرابين .. تغيير .. حرية .. عدالة اجتماعية ..كأنهم أموات يبعثون .. بلد تنتفض من رماد.. 
جرت بكل طاقتها في اتجاه ذلك الطريق .. لا تفهم الكثير من متطلباته ولكنها شعرت فيه بالأمان .. رغم الزحام و الصراخ و فوارغ الرصاص تحت قدميها .. لم تبالي..

و من وسط الزحام لمس كتفها برفق .. و قابل عينيها بابتسامة تشجيع ..  بادلته الابتسام..
وضعا اليد باليد و ذهبا يهتفان سويا .. و باليد الأخرى حملت العلم الحبيب .. و بيده الأخرى رفع علم أكبر فوق رأسها ليحميها من شمس قاهرة .. زادت طمأنينة...

و في هدوء مُختلَس .. افترشا الأرض سوياً .. و قال: أتحبي الذهاب لصيد الفراشات؟
قالت: لا أحب الفراشات!
قال: جربي .. ربما أريتك فراشات تختلف ألوانها عن أي فراشات عرفتيها مسبقاً .. 
قالت: الفراشات تموت سريعاً .. 
قال: أعرف .. و لكن لما لا نستمتع بألوانها قبل ان تموت؟!  لما لا تحملنا رفرات اجنحتها لعالم بعيد جميل .. فيه البحر بلا موج ولا غرق .. و السماء تهدي نجومها للعاشقين يهدونها لحبيباتهن دبابيس شعر .. و الأرض تخرج للناس أحسن الثمر .. و الهواء لا يحمل إلا سلاماً و عطوراً..
قالت: و هل تعرف فراشات بإمكانها ان تحملنا، بكل ما نحن مثقلين به من هموم، إلى ذلك العالم؟
قال: بلى
قالت: و إن وقعنا من فوق أجنحتها .. ألا نتحطم فوق صخور الواقع؟!
قال: سأحملك إذن على كفوفي و أطير أنا بك

أخذ يدها بيده و مضى .. في البداية أهداها فراشات كثيرة .. بأجنحة بيضاء كالثلج و أخرى بلون النار..اجنحة تحمل ألوان الورد و أخرى تزينت بأقواس قزح ... فرحت بها ... ضمتها إليها فحملتها و ارتفعت راقصة بها .. سمعت ضحكاته .. اقتربت منه تحمله معها .. اخذ بيدها .. جذبها لأسفل فلامست قدميها الأرض مرة أخرى .. سألته بعينيها .. لماذا لم تطر معنا؟! لم ينتبه للسؤال .. مضى بها في طريق لم ترَ فيه أي فراشات .. و لا طيور أو زهور .. تسرب منها شعور الأمان رويداً رويداً.. و كلما مضى بها بعيداً ..  كلما شعرت بوحشة ذكّرتها بالدرب الأول .. بالوحدة الأولى

تساءلت .. لم الوحدة الآن و أنا لي رفيق،نصيد الفراشات سوياً؟! لماذا الغربة الآن و أنا اسكن وطن جديد؟!

شعرت بشمس الطريق تغيم .. صار الطريق أكثر برودة .. و لم تمنحها ضمة يده لكفها أي دفء.. 

سألته: أين الفراشات؟! قال بلا اكتراث: و من أين لي أن اعرف؟! ربما لم تريها.. ربما لم تعيريها انتباهك جيداً...
قالت: وعدتني بالفراشات ... لم يرد ... 

سحبت يدها من يده بهدوء .. لم ينتبه.. 
وقفت محلها و لم ترافقه خطواتها .. اكمل الطريق ماضياً ولم ينظر خلفه ...

ولما خفضت عينيها أسفاً على ضياع الطريق من قدميها .. رأته يطأ فراشات ميتة بقدميه .. ولا يبالي..