عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Thursday, December 13, 2012

نَـــــعْــي

قاوَمتْ كثيرا... و انهزَمتْ............... أكثر!

****

مع آخر شهقات المقاومة تذكّرت وصيتها...

"لا أريدكم أن تحزنوا.. عيشوا.. أحبوا.. احنفلوا بأعراسكم و أعياد الميلاد... لا تؤجلوا شيء منهم.. وزّعوا في مأتمي الحلوى التي أحب.. و لا تشربوا القهوة السادة.. اشربوها مثلما أحببتها "زيادة"... أو وزّعوا مياة غازية و آيس كريم.. تلك أشياء أحبها فوزعوها في مأتمي و تذكروني... تذكروا نِكاتي و سخريتي وضحكاتي.. تذكروا أفعالي/أقوالي  التي أثارت زوابع الضحك في جلساتنا و اضحكوا مثلما ضحكنا ساعتها.. لقد كان الفرح عزيزا طوال العمر ولا أريد أن يعزّ أيضا في الممات.. لا تؤجلوا أفراحكم لأجلي.. سأفرح معكم"

تَعلّقت الشهقة كغصة في حلقها حين أدركت ان أحدهم لم يشاركها فرحا و لم يدرك لها ألماً إلا حين جأرت بالشكوى فقط.. 

حين أدركت أن البُعد لم يكن بُعد مسافات فقط، بل غلبة اعتياد..حين أدركت ان القهر لم يكن عشوائية قدر بل كان هو القدر.. 

حين أدركت ان الصداقة/الحب/الأمومة/الأهل/الصدق/الحق/الخير/الجمال ماهي إلا أثواب ألبستها خيالاتها لأشخاص مروا من هنالك و تصادف ان كانت في طريقهم...

حين أدركت ما كان مقامها في العالم.. حين تجسدت حقيقة انها كانت مجرد الـ بديل المتاح/المصدر الوحيد/الأسهل/الحائط المائل فقط.. و انها كانت فقط للـ "استخدام الآدمي" و الـ "استهلاك الآدمي" و ليست للـ "تعامل الآدمي" أبدا...

حين أدركت انهم، بخذلانهم و تخاذلهم، بكل استنزافهم لقواها، بكل ما سددوا لها من اتهامات و تهم، بأطماعهم و نواقصهم، باحوالهم و افعالهم تلك التي خلت من أي حب او قصد فرح أوصتهم ان يفرحوه بعد مماتهم.. و لكنها مرت هنالك كصدفة عشوائية عابرة لم/لا/لن يتوقف أحدهم عندها كثيرا...

حينها...

لم تخرج الروح من جسدها زفيرا كالمعتاد.. بل إنكتمت بداخلها قهرا و انهزاما.. و فاضت إلى ربها فإليه المنقلب....

****

كل من يمر بشاهد قبرها الخال من أي أسماء/دعاء بالرحمة سيظن القبر خاليا و ربما لن يلحظه أحدهم أيضا.. كما لم يلحظها أحد حية غالبا لن يلحظوها ميتة... 

لذا


نسألكم الفاتحة  و/أو الدعاء... و لو صدفة...



Monday, July 9, 2012

هكذا قالت الجبال

سانت كاترين - جنوب سيناء
"لتتعلم أيها الفاني، عليك أن تنزل من فوق صهوة غرورك و تجلس كتلميذ متهيب في صمت و تستمع لما سنعلمه لك"

             هكذا قالت الجِبَال

         ************





تعلَّم أيها الفاني:

أن تدرك حجمك على هذه الأرض و تدرك قيمتك عليها.. انت لا تعدو كونك مجرد ذرة.. و لكن سُخِر الكون كله لها.. فاخشع ولا تتجبّر

أن تدرك "عقلك" ولماذا أوتيتهُ.. فلأنك لا تصلح للعيش على هذه الأرض بامكانيات جسدك وحدها، منحت عقلاً يغلبك على عجز الجسد .. فاخشع و لا تهمله

أن تدرك قيمة شهيقك و زفيرك.. ذلك الفعل الذي تأتيه كل ثانية بدون إرادة عادة، قد لا تستطيع اتيانه ولو أردت.. فاخشع ولا تضيعه

ان ترى الثمر يخرج من قلب الصخر.. فتتحسس موضع القلب منك.. هل صار صخرا بعد؟! إذن سيثمر الزهر منه عما قليل ... فاخشع ولا تقنط

ان ترى الماء يجري من عل فيشق لنفسه طريقا من قلب الصخر، ليأتيك بردا و سلاماً من القيظ.. فتشرب و تقر عينا ويغيب عنك الظمأ بعدها وقتاً طويلا.. أتاك الماء من قلب الصخر ليرويك من حيث لا انت ولا الصخر احتسبتم... فاخشع ولا تهدره

ان تدرك ان ليس كل الظل ظلاما.. ستستحث الظل للحظة كي تحتمي فيه من لفح الشمس.. و ستلهث خلف ظلك لتدرك انك موجود على هذه الأرض ولست وهماً .. فلتستحضر معنى "يوم لا ظل إلا ظله" و تشكر الظل على وجوده.. فحيث وُجد وُجدت انت.. فاخشع ولا تحقره

أن تتخذ من الخطو على الصخر طريقاً مهما بدا مستحيلاً.. فبامكانك الاعتماد عليه بقدميك او حتى يديك لتتحرك للأمام.. أما الحصى و الرمل، برغم البساطة و السهولة البادية فيهما،فسيحملاك خطوة، و ينهارا تحت قدميك لترجع للوراء خطوتين.. فاخشع ولا تنهره

 ان تتساءل "أترى لخطواتك أثرا؟!" إنك فانٍ، و كذا خطواتك إن لم يكن لها الوقع الذي يحفرها على وجه الصخر.. أثرك/ عمرك فانٍ، فاخشع ولا تهدره

أن ترقب خطوك جيدا ان اردت ألا تزلّ قدمك.. الطريق ليس صديقا كما قد تظن، كما انه ليس بعدو ... إنما انت عليه ضيف، فلتظهر الاهتمام و الاحترام.. فاخشع ولا تستيسره

أن تدرك ان الطريق لم يخلق بكل تفاصيله عبثاً.. لأنك فانٍ، فانت تظن انه مسار للانتقال بين نقطتين.. تلك مهمة محدودة لمحدودي البصيرة.. للطريق لغة تدركها حين تدرك تفاصيله من حولك.. توقف قليلا أثناء سعيك.. تأمل تفاصيل الطريق و لا تكن ضيفاً ضريراً.. فاخشع و ابصره

ان ترفع عينيك للسماء.. كيف رُفِعت.. و مدى بعدك/اقترابك عنها و منها.. أتبعد عنك بقدر دعوة؟ بقدر لحظة تأمل؟ بقدر دمعة تفر من عينيك خجلا؟ أتخشاها ام تتمناها؟... ارفع عيناك لها..  و اخشع و اقترب

أن تدرك انك مسموع لنا و لو همست.. و لو أسررت لنفسك... نسمعك، فتكلم.. نسمعك، فتألم.. نسمعك، فتأكد أن سرك محفوظ في قلب الصخر.. لما ننوء به يخرج ثمرا و ماء.. وجدنا كي نعلمك ان من قلب الظلمات يخلق النور.. و من قلب الصخر يخرج الثمر .. و من قلب الألم يخرج الإيمان.. فاخشع و تقبل ألمك

ندرك ان ألمك يصقل روحك.. فلا تغضب.. المشقة تصنع منك إنساناً.. و الإنسان يصنع المستحيلات.. بالمشقة تمكن اجدادك من شق طريق بين جلاميد الصخر و لم يقنطوا.. تذكر السابقين و ما كابدوه حتى تسير اليوم مختالا فخورا في طريق كنت تظنه اليوم وعرا، فكيف كان وقت ان قهروه و مهدوه لأجلك؟ فاخشع و اسمو فوق ألمك

أن تدرك أن الموسيقى لغة الكون.. و لغة جسدك.. كلما أوغلت فيها أوغلت فيك.. أعطتك من مفرداتها كلمات، و جُمَّل تكشف لك سر الكون.. و سر نفسك.. فاخشع و استمع

ان تمد يديك إلى الرزق.. حين ترى الثمار تميل عليك بفروعها، و تعطرك بشذاها، لا تردها خائبة... تذوق الخير ولا تسرف.. فلا أطيب من ثمر نما في الخفاء و تحدى البرد و القيظ و الوِحدة من أجلك.. فاخشع و استطيبه

و تعلم أيها الفاني، .. الموت مُدركك حتى و لو بين أضلع الجبال..  ان تمُتْ في الجبال، فلا اسم لك عند البشر.. و لكنا نحن سنعرفك.. سنحفظك.. سنؤنس وحدتك.. و سنبعث سيرتك في ترانيمنا للسماء.. فاخشع و اتعظ
تعلَّم ان تُسلّم حين تمر ببيوت قوم.. حتى لو كانت آخر مثواهم على الأرض و ادعُ ربك أن يكون لك بيتاً  حتى و لو بين صخر الجبال، يمر به العابرون كراماً فيُسَّلِمون.. و اشكر نعمته عليك إذ يجعل لك على الأرض أحبة يتذكرونك.. حتى بكتابة اسمك على شاهد حجري يشهد على وجودك يوما ما على هذه الأرض.. اشكر نعمته عليك إذ يجعل موتك معلوما و لو من نفس واحدة على الأرض تبكيك يوم ترقد في آخر منازلك عليها..و ربما تذكرك كل حين بسلامٍ على البعد.. و اشكر نعمته عليك إذا بعث لك في قلب الجبل غريبا يمر بظله فوق قبرك فيجعل من ظله عباءة.. فاخشع و سَلِّم و اشكر و اعتبر

ان تدرك ان للصخر القاسي قلب.. لا يشبه قلبك.. قلب لا ينسى.. يُنبت الثمر و يُجري الماء.. قلب يشعر بوحدتك أيها الفاني و لهذا تكلمنا إليك.. فاخشع و استمع

انزل ايها الفاني من فوق صهوة غرورك.. فلولانا لمادت بك الأرض... فاخشع و ابتهل

***

هكذا قالت الجِبَال..

Wednesday, May 23, 2012

هلوسات دمية قماش

تُذبَح.. فتنزف... فتذوي... و تموت. ثم تعيش كـ"زومبي".. فتروح و تجيء و تأكل و تشرب و ترتدي أقنعة الضحك و البكاء بحسب المناسبات.. و لا شيء حيّ فيك سوى الألم!

يقبع هناك.. ذكرى وحيدة لا ترتبط بحادث معين... يحرّقك.. يعيد عليك صورة دمك المهدور بتكرار مذل. تحاول تناسيه و إقصاء رائحة الدم عن أنفك.. ثم تتذكر أنك لست سوى "زومبي" لا يملك من الإرادة شيء!

*****

ترى الموجودات من حولك تصطبغ بلون أحمر... فتدرك أن ما يسيل من عينيك ليس دمعاً!!

*****

بعد منتصف الليل بزمنٍ، أسمع صوت مياة جارية.. أفكر: لعل أحدهم يغسل ملابسه أو روحه ليأتي عليه النهار و "هي" نظيفة...

*****

لكل منّا وجهان.. وجه نعرّفه للجميع و آخر نخفيه عن الجميع، غالبا ما يكون قبيحاً و مدعاة للعار... كنت انت ذلك الوجه الذي أخفيته عن الجميع... قبيح، و مدعاة للعار...

*****

و انا أرقب تلك الأجسام الضئيلة الهشة، القابلة للانسحاق بقبضة يد عارية، أدرك كم نحن مثلها، هشّون و قابلون للانسحاق، بل و نستحقه أحياناً كثيرة.. لولا رحمته التي وسعت كل شيء.. حتى "نحن"...

*****

تصطبغ الورقة و الحروف بلون أحمر.. فتدرك أن الذي يجري على الورق ليس حبراً.. و ليس مصدره القلم......

*****

تتدافع الأفكار، الصور، الكلمات، العبارات... فيرتفع معدل نبض الألم لحدٍ خطر.. و لكن الموت لا يأتي... فهو لا يأتي، أبداً، مرتين....

*****

لماذ يقتل البعض و ينتحر البعض الآخر مادامت الكتابة موجودة؟! فهي تتيح القيام بالفعلين معاً، من دون فوضى الدماء و التحقيقات!!

و إن كان ذلك يجعلني أخمن سبباً لانتحار البعض، أو لجوء البعض الآخر إلى القتل.. لابد أنهم كانوا أميّون!

*****

مع كل كلمة تخطّها على الورق، ينضح جبينها حبة عرق بارد.. تقل نبضات قلبها واحدة.. و يرتفع صخب الألم بمقدار 100 ديسيبل/كلمة... فتشعر بصمم الموت، لا الموت نفسه.... فكما قلنا، إنه لا يأتي - أبداً - مرتين...

*****

على مدار السنين، زارها الموت مرتدياً العديد من الأقنعة.. حرقاً، صعقاً، غرقاً، و سقوط من علٍ... و عن طريق خطف عزيز و حبيب لا يعوض غيابه أحد، فيقتطع من جسدها/روحها جزءاً لا يمكن استبداله، فكأنها ستموت بالـ"قطعة"... و على هذه الصور، صارت و الموت "معرفة قديمة".

و لكن يظل "الموت ألماً" هو منجز المهمة الفعلي.. فبغض النظر عن الـ"معرفة القديمة" و برغم أنه كان الأشد وطأة، إلا أنه - باحترافية تستحق الاحترام - يقوم بالمهمة على الوجه الأكمل ... ببطء... و على مراحل .. و بمنتهى الفاعلية...

*****

ظلمتك حين قلتُ عنْك أنك "وجهي القبيح"... "أنا" هو وجهي القبيح الحقيقي.. و الأكثر مدعاة للعار........

*****

ترقب القطة الغافية بجوارها على الفراش، و التي، برغم نومها، تمد قوائمها لتتلمسها و تأتنس بوجودها... تفكر:"أنتِ الكائن الوحيد على هذه الأرض الذي يحبني - حقاً - لوجه الله.. برغم أني لا أقدم لكِ أي شيء سوى أني أناديكِ دوماً لتجلسي أو تغفي بجواري لأأتنس بوجودك و أتخفف من عبء وحدتي قليلاً أو اخدع نفسي بذلك على الأقل.. ألهذا تحبينني؟! و هل للـ"ونس" هذا القدر من الأهمية في حياة أي روح، فيجعلها "تحب" من تأتنس به؟!

عموماً، أشكرك يا قطتي على حبك، أياً كانت بواعثه... أشكرك على ماتمنحيني من الونس مما عجز عنه بنو الـ"بشر"

*****

حين تبطيء سرعتي في الكتابة، أعلم أن الجرح قد استنزف دمه حتى مداه.. حتى حافة الموت الذي لا يأتي أبدا مرتين .. و أنه لم يبق منه سوى ما يكفي لمواصلة المسير كـ"زومبي" حتى يأتي الـ"معرفة القديمة" لزيارتي مجدداً فأكتشف أن هناك مزيد من الدماء لـ تُنزف...

Wednesday, January 4, 2012

سُــــلَـــيْمَـــــى

أرى سلمى بلا ذنب جفتني

و كانت أمسِ من بعضي .. و مني

كأني ما لثمت لها شفاهاً

كأني ما وصلتُ و لم تَصلني

كأني لم أداعبها لعوباً .. و لم تهفو إليَ و تستزدني

كأن الليل لم يرضى و يروي أحاديث الهوى عنها و عني
###

لم تكن سلمى تدري أنها ستقع بهوى هذا الرجل بهذا القدر من الجنون.. كان رجلا عادياً بكل ما تخلو منه الكلمة من معانٍ.. ليس جميلاً وليس من الأثرياء و لا الأقوياء .. و ليس شاعرا و لا مجنوناً... سوى بها!

كم جُنَّ بها الرجال من قبل و لم تعبأ.. و لكن هذا الرجل.. هذا الرجل تسلل إلى عقلها.. تهادى بين منعطفات أحزانها و غضبها.. و بحبه و ضعفه و اشتياقه و لهفته، سيطر على مشاعرها.. تملّكها فملَكها..

قاومت و صرخت و غضبت و فجّرت و حطمت الكثير و الكثير من الكلمات و المزهريات و الهدايا و المعاني.. و بقي.. طأطأ رأسه أمام ثوراتها المتعاقبة المتفجرة، ثم  رفع بعدها قامة العشق عالية ثابتة لم تزحزها غضبة و لا انفجار

قال:

"أحبُكِ كيف أنتِ.. و كيف أنا.. و انا لا أملك من أمري شيئاً سوى أني أحبُكِ.. فساعديني و لا تحملي على بضعفي"

ذابت بين حروف كلماته.. و دفء راحتيه.. و سلَّمَت سلمى 

إطمأنت وهدأ عقلها قليلاً.. نامت في كفه... توسدت قلبه و غفت كقطة بحثت عن الدفء طويلاً ثم وجدته فقرّت عيناً و استقرت

مسد رأسها بيديه.. تخلل مشاعرها بأنامله و همساته.. ابتسمت له و أطلقت العنان لغجريات الليل الحالك ليرمحن و يمرحن على كتفه و صدره.. و جنيات عطرها أشعلن النار تحت قدور الرغبة و العشق و النشوة.. فتلقته أمواج العطر سابحاً مخلصاً.. و حملته لشطآن نحرها

ذاب في حرارة أنفاسها.. و انثال روحاً خالصة على خطوط الجسد، فاكتشفها و أعاد تشكيلها.. ما بين صحارٍ وبحارٍ و وديان ريانة.. تشكلت بين يديه أنثى و نَمِرَة و حيّة و حواء حتى صارت ملكة سلبت تاج عشتار، فصار التاج بها أكثر اكتمالاً.. 

إنهمر العشق من عينيه مطراً روى قلبها فأزهر ورودا و نجوماً و أقماراً صغيرة.. زيّن بالورود شعرها و جيدها و يديها.. و أضاءت بالأقمار ليلهِ.. و من صدره صنع لها مخدعاً.. حفّه لها بالنجوم و الحرير و الفراشات الملونة.. و صنع لها من الغيوم البِيض وسادة و حِرام..

تقلّبا مِلء الأرض و السماء.. دار في فُلك الهوى بين ذراعيها و عينيها.. صار نبضه في قلبها.. و عينيها مرآته.. ارتوى من رحيق شِفاها و امتلأ.. و زادته عطشاً بعد ارتواء.. 

تَشَكّلت بحرارة يديه.. فانصهر.. 

و جَرى نهراً.. منبعه جيدها.. انقسم فروعاً ما بين منحنيات و خطوط.. انهمر شلالا من علٍ.. غاض في أخاديد و منخفضات.. و كان المصب بين قدميها.. فخُلقت جنة صغيرة من شجيرات و فراشات و نخيل..
  
استفاقت سلمى من نشوتها لتجد انها صارت ملكة و كوكب.. معشوقة و إلهة عشق.. يجري عاشقها و مريدها نهراً فوق أرضها.. ينمو زهورا و طيورا و نخيلاً بين وديانها.. يستقر كواحة وسط صحاريها.. 

رَنَتْ إليه و تذكرت كل مآسي العشق و العاشقين.. تذكرت الذين خانوا و غدروا.. الذين رحلوا.. الذين كفروا بها و كفَّروها.. 

بكت في صمت.. تصورته كافراً بها.. خائناً لها.. خافت و ارتبكت.. انطفأت ارتعاشات النجوم حول مخدعها.. و اربدّت الغيوم و امطرت فأغرقت الفراشات و أفزعت الطيور.. 

صحى بركان الحزن بداخلها 

زمجر متسائلاً: كيف آمنتي و أمِنتي؟! كيف سلّمتي يا سلمى؟! بدونه أنتِ ملكة شاء أم أبى.. أما معه، فقد تُباعين جارية بثمن بخس في لحظة ضجر او بطر.. ماذا صنعتي بنفسك يا سلمى؟!

صحى الرعب و الغضب.. طردوا العشق و وأدوا النشوة.. و فرّت سلمى.. من نفسها...

صرخت هامسة و هي تلملم أشلائها .. 

"أُحِبُكَ.. و لكني أخافُك.. أخاف أن تخدعني و تهجرني.. و أخاف من نفسي و عليها .. أُحِبُكَ.. و لكني لن أقدر أن أمنحك أكثر من تلك اللحظات.. لن أقدر أن أمنحك قلبي ولا عيني و لا سلامي.. حتى و إن كنت قد سرقتني في غفلة مني او نشوة.. لن تملكني.. أهرب الآن و أحمل معي ما بقى مني لكي لا أضيع.. لكي لا تضيعني.. بلا ذنب أتركك.. بلا ذنب سوى حبك.. سأموت بيدي لا بيدك.. قد تغفر لي أني خُنتك خوفاً.. ولكني لن أغفر لك أبدا أن قتلتني غدراً"

هربت سلمى.. حاملة ذنبه و ذنوبها.. و بقايا أرض و سماء و نجوم و فراشات ..

###

غداً لما أموت و أنتِ بعدي تطوفين القبور على تأنّي
قِفي بجوار قبري .. ثم قولي
أيا من كنتُ منكَ و كنتَ مني
خدعتُكَ في الحياة .. و لم أبالي
و خُنتُكَ في الغرام .. و لم تخُنّي
كذا طَبع المِلاح .. فلا زمامٌ
فُطِرنا على الخداع .. فلا تلُمْني

Window - George Tooker

* قصيدة "أرى سلمى" للشاعر العراقي محسن أطميش