عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Friday, July 5, 2013

خِـــبــال

في غرفة ضيقة.. يهدر مكيف الهواء مصدراً صقيعاً... تتضخم الوحشة حتى تملأ فراغ الغرفة الضيّق بالأساس.. تغيم الرؤية و تصبح الموجودات عدم.. ثم تتجسد بغتة، فيتلفت حوله غير عارف أين يكون و لا كيف وصل إلى هذه الغرفة الضيقة ذات البرودة القارسة برغم الأغطية... التي - بالمناسبة - لا يطقيها و لا يطيق البرودة دونها في نفس اللحظة في تناقض عجيب لا يدري من أين له به!! 

هناك وجود ما بالغرفة يكافح للحصول على نَفَس.. يُنازع من أجل الهواء منازعة حقيقية... يرتج الفراش - الذي يبدو أن هذا الوجود يستلقي عليه محاولاً النوم مع معاناته في التنفس - فيبدو خيار النوم خيارا سخيفاً، مثيرا للغثيان مع تلك الارتجاجات المتواصلة مع كل نَفَس... يتباين رد الفعل مع هذه المعاناة ما بين التعاطف و الضيق و العصبية و عدم الفهم..
تصدر غمغمات غير مفهومة من ذلك الوجود، فيزداد حيرة و انفصالاً عن الواقع كلما حاول تفسير "معاناة التنفس" أو "الغمغمات الغامضة".. ثم يبدأ الشعور بهذا الوجود في التلاشي تدريجياً مع إزدياد تشوش الرؤية و إزدياد صعوبة الإدراك..

يصمت المكيف قليلاً و يصدر عنه صوت خرير مياة.. فيزيد شعوره بأنه موجود في "كهف"... 

الظلام يغلف رؤيته برغم الأضواء الاصطناعية فوق رأسه.. و صوت تنفس "الوجود" - الذي لا يعرف بماذا يشعر تجاهه الآن، و إن كان على الأغلب لم يعد يشعر تجاهه بشيء على الاطلاق - يزداد معاناة و "رجّاً" للفراش... 

يفكر "هل يمكنني الهرب؟!"

تأتيه أصوات من خارج المكان لقرع طبول مجهولة المصدر - الطبول و الأصوات - فتقذف في قلبه الرعب فينكمش على نفسه محاولاً استعادة نفسه... يحاول التنفس بعمق ليهدأ.. فيكتشف أن المكيف قد جمد هواء الغرفة - الضيقة سيئة التهوية أصلاً - فيشعر انه يكافح لكي يتنفس - هو أيضاً - فيزداد انكماشاً....

يزداد تماوج الرؤى أمام عينيه فيصعب عليه ان يقرر هل هو يرى أم يتخيل..  يدور في الغرفة كنمر حبسوه في قفص أضيق من حجمه... يذهب لزاوية -يتصور هو - أنها الحمام.. يغسل وجهه و ينظر لما يتراءى له كأنه وجهه فلا يعرفه فيدير رأسه عن المرآة هرباً...
يشعر أنه سيرتاح لو أفرغ جوفه و لكن لا يستطيع حسم أمره "كيف".. يدور بعينيه في أرجاء الحمام و يفكر "إنه حمام أنيق! لو امتلكت المال الكافي لجعلت حمام بيتي مثله.. قد أغير في الألوان.. يمكن"... يزيد من تجوال عينيه في أرجاء الحمام و يشعر انه ارتاح قليلا و لا يدري لمَ!
الحمام أدفأ من الغرفة كثيرا حيث أنه يقع خارج نطاق صقيع المكيف.. يظن أن هذا ما يشعره بالراحة... تنتزعه الغمغمات الغامضة من شروده فتدفع الصقيع في عروقه مرة أخرى حتى و هو بعيد عن المكيف..

يجد نفسه مدفوعاً للعودة للغرفة الضيقة - التي يبدو الآن الحمام أوسع منها بدون أن يدري كيف يمكن ذلك - فيعود زحفاً داخل  الغرفة..
هو يشعر انه يزحف برغم أنه يقف على ساقيه معتدلاً.. استغرب ان الزحف قد يأتي في صورة "شعور" و ليس "فعلا"... يستمر في الزحف - شعوريا - تجاه الفراش المرتجّ مرة أخرى..
"ماذا أفعل هنا؟!!!" يدّوي السؤال بين جنبات عقله، فتميد به الأرض و يشعر انه على وشك فقدان اتزانه.. كيف يمكن ذلك لمن يزحف على أربع؟؟!!! يزيده ذلك الشعور ارتباكاً فيسقط على السرير ولا يعرف هل تلك الارتجاجة بسببه ام بسبب ما يكابده "الوجود" ليلتقط نفساً.. يشعر بالألم من أجل ذلك الوجود فجأة.. لا ينبغي لأي كائن ان يجاهد من أجل التقاط أنفاسه!! هذا شيء مؤسف حقاً!! من فعل بك هذا أيها المسكين؟! يختلط عليه الأمر حين يعجز أن يحدد هل كان السؤال موجها للـ"وجود" أم لنفسه.. ينفضه عن رأسه موغلا في التيه.. 

مستلقياً على الفراش جاهلا ما يمكنه أن يفعله في حالة انعدام الادراك تلك.. يفكر "على أن أتواصل مع أحدهم بأي شكل.. سيعيدني هذا لتوازني.. لابد!".. .يهرع إلى التليفون.. يمسح شاشته باصابعه.. يحدق في الأسماء التي كانت تملأ أيامه كلاماً و صخبا في السابق - أو هكذا يظن... يعني، يمكن! - لا يعرف من منهم يكلم و لا ماذا يقول له... تتراءى له جُمل من عتاب او مجاملات او أحاديث سطحية قد يفتح بها مجالا للحوار.. يفكر: " و لكن أنا لا اعرف هؤلاء القوم!!! يبدو أنني كنت أعرفهم في السابق و لكن Not any more!! يستغرب الحروف الأعجمية التي تراصت على لسان عقله و لكنه لا يتوقف عندها كثيرا...

يشعر بنفسه خفيفاً كأنه لا وزن له.. و برغم ذلك يشعر و كأن أحدهم قد سمّره للأرض.. لماذا لا يقوى على الحركة.. "لو خرجت من هذه الغرفة سأكون بخير"، هكذا يفكر لنفسه.. " و أين ستذهب؟!" يرد عليه صوت ما لا يعرف مصدره و لا يكترث للمعرفة..

"الموسيقى تنقذني كل مرة.. سأدير بعض ملفات الموسيقى من الجهاز و سأصبح بعدها على ما يرام"... يتذكر معركة دارت أمامه بين آلة البيانو الراقية و آلة الكمان - الراقية أيضاً - و التي - المعركة لا الكمان - كانت تنأى كل النأي عن الرقي.. فيشعر بزيف الأشياء كلها و يترك سماعات الأذن معلقة في الجهاز بدون أن يشغل أي موسيقى.. يشعر بالألفة مع وضع السماعات معلقة هكذا.. هو يشعر انه معلق أيضاً.. لا يعرف لنفسه هدفاً ولا من علقه و تركه هكذا... ياله من قنوط! 

"لابد أن أهرب من هنا".. يشعر بعزيمة ما تتسرب إلى عروقه.. و لكن حين يتذكر أنه قد جاء إلى "هنا" هارباً من "هناك" يشعر بمزيد من  القنوط.. ليس الأمر "هنا" أو "هناك"... المشكلة فيك لأنك تحمل نفسك أينما ذهبت.. كيف تهرب من نفسك؟! 

عطش حارق يكوي حلقه كأنه لم يشرب منذ دهور.. و لا توجد سوى زجاجة مياة واحدة حتى الغد.. يزداد شعوره بالعطش حين يدرك تلك الحقيقة، و يقرّع نفسه أنه لم يشتر زجاجة كبيرة في عودته من الخارج.. "متى كنت بالخارج؟! لا أذكر!!"..

يشعر بمقلتيه تدوران في محجريهما بلا هدف.. و هذا الدوران يشعره بمزيد من الدوخة التي لا يعرف ان كانت محببة أم مزعجة...

شعور بالذنب يخنقه.. أنا اخطأت في حق فلان.. و لكن لماذا يصعب عليه ان يسامحني مرة؟! سامحته مرات و كان خطؤه أكبر مني! ياله من مغرور!!!
يالي من مغرور أطالب الناس بالغفران متى أشاء، لا متى يقدرون..
ما كل هذا الغباء الاجتماعي؟!
ما هذا المصطلح؟! "الغباء الاجتماعي"..  يبدو مصطلحاً ذكيا جدا لا يصدر عنه في حالة الارتباك التي تنتابه الآن.. و لكنه في العادة ذكي.. هكذا يعلقون على ردوده السريعة الحاضرة المنطقية دوماً التي لا يبدو أنه يجتهد في الاتيان بها.. و كأنها فطرة بديهية..

أحتاج للنوم.. يوووووه! قلنا النوم يبدو سخيفاً مع ارتجاجات الفراش بسبب الوجود الذي يقاتل من أجل التنفس، و هدير المكيف، و أصوات الطبول، والشعور بالدوار و الخفة و الثقل في نفس اللحظة، و احساس الذنب الخانق تجاه هؤلاء الأشخاص الذين يضنون علي بالغفران و لا أعرف ماهي علاقتي بهم، و تلك الحروف الأعجمية التي تتراص بجوار مصطلحات ذكية منمقة تتوارد على ذهني بسلاسة، كأنها بديهية و هنالك منذ الأبد، في هذا الكهف الضيق المظلم الخانق، الذي تكاد برودته تقتل، ذو الحمام الأنيق بألوانه الرائقة، التي لو امتلكت المال الكافي يوما لقلدتها في بيتي، حين أتمكن يوما من تحديد كيف أريد أن أفرغ جوفي، و أقدر على الهروب من نفسي، و أطفيء ذلك الظمأ الحارق حين أشتري زجاجة مياة  وانا عائد من السوق، و أجد الطريق إلى البيت...  


By Anne Fennigan