أرى سلمى بلا ذنب جفتني
و كانت أمسِ من بعضي .. و مني
كأني ما لثمت لها شفاهاً
كأني ما وصلتُ و لم تَصلني
كأني لم أداعبها لعوباً .. و لم تهفو إليَ و تستزدني
كأن الليل لم يرضى و يروي أحاديث الهوى عنها و عني
###
لم تكن سلمى تدري أنها ستقع بهوى هذا الرجل بهذا القدر من الجنون.. كان رجلا عادياً بكل ما تخلو منه الكلمة من معانٍ.. ليس جميلاً وليس من الأثرياء و لا الأقوياء .. و ليس شاعرا و لا مجنوناً... سوى بها!
كم جُنَّ بها الرجال من قبل و لم تعبأ.. و لكن هذا الرجل.. هذا الرجل تسلل إلى عقلها.. تهادى بين منعطفات أحزانها و غضبها.. و بحبه و ضعفه و اشتياقه و لهفته، سيطر على مشاعرها.. تملّكها فملَكها..
قاومت و صرخت و غضبت و فجّرت و حطمت الكثير و الكثير من الكلمات و المزهريات و الهدايا و المعاني.. و بقي.. طأطأ رأسه أمام ثوراتها المتعاقبة المتفجرة، ثم رفع بعدها قامة العشق عالية ثابتة لم تزحزها غضبة و لا انفجار
قال:
"أحبُكِ كيف أنتِ.. و كيف أنا.. و انا لا أملك من أمري شيئاً سوى أني أحبُكِ.. فساعديني و لا تحملي على بضعفي"
ذابت بين حروف كلماته.. و دفء راحتيه.. و سلَّمَت سلمى
إطمأنت وهدأ عقلها قليلاً.. نامت في كفه... توسدت قلبه و غفت كقطة بحثت عن الدفء طويلاً ثم وجدته فقرّت عيناً و استقرت
مسد رأسها بيديه.. تخلل مشاعرها بأنامله و همساته.. ابتسمت له و أطلقت العنان لغجريات الليل الحالك ليرمحن و يمرحن على كتفه و صدره.. و جنيات عطرها أشعلن النار تحت قدور الرغبة و العشق و النشوة.. فتلقته أمواج العطر سابحاً مخلصاً.. و حملته لشطآن نحرها
ذاب في حرارة أنفاسها.. و انثال روحاً خالصة على خطوط الجسد، فاكتشفها و أعاد تشكيلها.. ما بين صحارٍ وبحارٍ و وديان ريانة.. تشكلت بين يديه أنثى و نَمِرَة و حيّة و حواء حتى صارت ملكة سلبت تاج عشتار، فصار التاج بها أكثر اكتمالاً..
إنهمر العشق من عينيه مطراً روى قلبها فأزهر ورودا و نجوماً و أقماراً صغيرة.. زيّن بالورود شعرها و جيدها و يديها.. و أضاءت بالأقمار ليلهِ.. و من صدره صنع لها مخدعاً.. حفّه لها بالنجوم و الحرير و الفراشات الملونة.. و صنع لها من الغيوم البِيض وسادة و حِرام..
تقلّبا مِلء الأرض و السماء.. دار في فُلك الهوى بين ذراعيها و عينيها.. صار نبضه في قلبها.. و عينيها مرآته.. ارتوى من رحيق شِفاها و امتلأ.. و زادته عطشاً بعد ارتواء..
تَشَكّلت بحرارة يديه.. فانصهر..
و جَرى نهراً.. منبعه جيدها.. انقسم فروعاً ما بين منحنيات و خطوط.. انهمر شلالا من علٍ.. غاض في أخاديد و منخفضات.. و كان المصب بين قدميها.. فخُلقت جنة صغيرة من شجيرات و فراشات و نخيل..
استفاقت سلمى من نشوتها لتجد انها صارت ملكة و كوكب.. معشوقة و إلهة عشق.. يجري عاشقها و مريدها نهراً فوق أرضها.. ينمو زهورا و طيورا و نخيلاً بين وديانها.. يستقر كواحة وسط صحاريها..
رَنَتْ إليه و تذكرت كل مآسي العشق و العاشقين.. تذكرت الذين خانوا و غدروا.. الذين رحلوا.. الذين كفروا بها و كفَّروها..
بكت في صمت.. تصورته كافراً بها.. خائناً لها.. خافت و ارتبكت.. انطفأت ارتعاشات النجوم حول مخدعها.. و اربدّت الغيوم و امطرت فأغرقت الفراشات و أفزعت الطيور..
صحى بركان الحزن بداخلها
زمجر متسائلاً: كيف آمنتي و أمِنتي؟! كيف سلّمتي يا سلمى؟! بدونه أنتِ ملكة شاء أم أبى.. أما معه، فقد تُباعين جارية بثمن بخس في لحظة ضجر او بطر.. ماذا صنعتي بنفسك يا سلمى؟!
صحى الرعب و الغضب.. طردوا العشق و وأدوا النشوة.. و فرّت سلمى.. من نفسها...
صرخت هامسة و هي تلملم أشلائها ..
"أُحِبُكَ.. و لكني أخافُك.. أخاف أن تخدعني و تهجرني.. و أخاف من نفسي و عليها .. أُحِبُكَ.. و لكني لن أقدر أن أمنحك أكثر من تلك اللحظات.. لن أقدر أن أمنحك قلبي ولا عيني و لا سلامي.. حتى و إن كنت قد سرقتني في غفلة مني او نشوة.. لن تملكني.. أهرب الآن و أحمل معي ما بقى مني لكي لا أضيع.. لكي لا تضيعني.. بلا ذنب أتركك.. بلا ذنب سوى حبك.. سأموت بيدي لا بيدك.. قد تغفر لي أني خُنتك خوفاً.. ولكني لن أغفر لك أبدا أن قتلتني غدراً"
هربت سلمى.. حاملة ذنبه و ذنوبها.. و بقايا أرض و سماء و نجوم و فراشات ..
###
غداً لما أموت و أنتِ بعدي تطوفين القبور على تأنّي
قِفي بجوار قبري .. ثم قولي
أيا من كنتُ منكَ و كنتَ مني
خدعتُكَ في الحياة .. و لم أبالي
و خُنتُكَ في الغرام .. و لم تخُنّي
كذا طَبع المِلاح .. فلا زمامٌ
فُطِرنا على الخداع .. فلا تلُمْني
|
Window - George Tooker |
* قصيدة "أرى سلمى" للشاعر العراقي محسن أطميش