كـ "ست أمينة" أصيلة، تحفّ أحبابها و من يهمهم أمرها دوماً بالدعاء.. أحيانا يضحكون و تضحك معهم من كثرته او تكرره في نفس اللحظة.. و لا أحد يشعر أن ندائها "يا رب" حين تبتهل إليه من أجلهم مختلف في كل مرة..
كلما زاد اقترابهم من قلبها، كلما كان النداء أعمق... لكم ترددت أصداء "يا رب" في روحها قبل أن يلفظها لسانها.. يهزها الدعاء و تستشعره في قلبها قبل ان يخرج مسموعاً إليهم.. أو حتى قبل ان تتشكل كلماته في عقلها.. دوما "يا رب" تسبق كل الكلمات و تتغلل بينها في وجدانها و قلبها.. من أجلهم فقط...
تستدعي المرات التي ابتهلت فيها إلى الله من أجلها.. تقل حرارة كثيرا عن تلك التي تدعوه فيها من أجل "أحدهم"...
حتى لو لم يدرك.. حتى لو لم يعرف.. حتى لو بدا الدعاء مكررا ساذجا طفوليا و مضحكا أحيانا لما يرتسم على وجهها سمت أم من القرن التاسع عشر تبتهل بالدعاء لأبنائها.. لا تهتم!
المهم ان دعائها له يخرج من الروح قبل الفم... دوماً....
************
"شايفة بيعملوا مع خالك ايه؟!"
"معلش يا خالو...!"
" إدعي لي بقى..."
" يارب يعرفك الخير و يبعد عنك الشر"
تتذكر تلك الطفلة ذات العشر سنوات، واقفة بالمطبخ جوار خالها الذي يواجه صعوبات ما.. و لا تذكر أي حوار دار بينهما - من أي نوع - يسبق ذاك... على الاطلاق!
************
*رجعوني عينيك.. لأيامي اللي راحوا....... *
يدير تلك الاغنية بدون مبرر ولا داع ولا سبب و هي تزور منزلهم مع والدتها.. الفتى مغرم يا ولداه!
و كابن جيران أصيل يحترم نفسه، يتبع الخطوات المعهودة من انتظار في الشرفات و متابعة لرحلة العودة من المدرسة كلما سنحت الفرصة... يتظرف مع أمها و يتلكأ في متجر الأدوات المدرسية بدون سبب واضح سوى "انها هناك.. الآن"
لا تهتم إطلاقا!! يلكزنها الرفيقات و يتغمزن عليه كلما مر جوار قافلتهم الصغيرة، حتى تحمرّ أذناه و يهرب من عِظم كيدهن...
و هي مازالت لا تهتم إطلاقا!!
إلا انها تضبط نفسها يوماً تدعو له - سراً طبعا!! - أن ينجح في اختبارات القبول في الكلية التي يتمناها... و لا تهتم -بعدها- إطلاقا!..... حقاً!
************
يتلبس الدعاء ثوب النضج و اللغة الصحيحة التي تشب عن طوق الطفولة بلا رجعة و هي تقف فوق قبر أبيها المفتوح تُأمن على دعوات الداعين له من أقارب و أغراب على السواء... تستمع بقلب اطمأن في كف الرحمن، فكف عن البكاء و سكن...
************
مشهد 1:
يوقظها صوت ضحكات أمها، سعيدة راضية، متصنعة السخرية..."ياختي! بتدعي له و انتي نايمة؟! يا عيني ع الحب و عمايله... ربنا يسعدكم، و تحلوا عنا بخطوبتكم دي و تتجوزوا بقى و نخلص منكم!"
تتبعها بقبلة على خدها المبتسم خجلا لافتضاح الحلم...
مشهد 2:
تربت على خد أمها لتمسح دموعها.. و تبتسم ابتسامة راضية مطمئنة و تردد "قدر الله و ما شاء فعل..."
فترد عليها أمها: "ربنا يعوض صبرك خير"... تبتسم و تعرف ان الله قد عوضها خيراً فعلا حين حمل قلبها مرة أخرى بين كفيه، و لم يدعه يسقط فينكسر....
*************
يستدعون - بدون داع - ذكريات الظلم.. يلوكون الحكاية تلو الحكاية و يحتشد الظلم بداخلها ظلمات من غضب..
لسنين ظل يأكل من فرحتها و يصبغ حياتها بظلال كابية من دخان نيرانه المستعرة طويلاً... يعميها دخان الغضب و ظلمات الظلم فلا ترى كيف تقود سيارتها.. تقود كالمجانين، لا تعبأ بزحام ولا مشاة و لا رصيف و لا قائدي السيارات الاخرى الذين يبدو و كأنهم استشعروا جنونها فتجنبوا مسار سيارتها تماما..
التفتت لتجد أمها متشبثة بمقعدها، مصفر وجهها من الرعب و تلتمع في عينيها دموع خوف تحاول حبسها...
فتصرخ "يا رب... مش مسامحاهم يا رب..."
توقف سيارتها على جانب الطريق، لأنها لم تعد تميز الطريق نهائيا...
تبكي طويلاـ حتى أوضحت لها الدموع الرؤية - كالعادة - فتستأنف المسير...
و قلبها، باحثا عن كف الرحمن، يقول:"انت حسبي..." و لم تغضب غضبة كتلك بعدها ابدا
*************
"يا رب انصرنا"... "يارب احميهم"... يا رب مد ايدك"... "يا رب، بنغير من نفسنا، ساعدنا يا رب"... "يا رب انتقم"... "يا رب ارحم"..............
"اللهم اضرب الظالمين بالظالمين و اخرجنا منهم سالمين".................................
*************
"يا رب يسعدك و يرضى عنك و يراضيك"... "ربي يجعل ايامك فرح و رضى و بركة و يرزقك راحة البال"... "يا رب اجبر بخاطر جابرين الخواطر يارب و اجعلنا منهم دايما"
دعائها الأقرب لقلبها... ينطقه قلبها لـ "هؤلاء" فقط...
"هؤلاء" من جبروا انكسارها و شدوا من أزرها فلم تسقط فريسة لغضب مرة أخرى..
"هؤلاء" من مسحوا من عينيها الدموع و منحوها رؤية صافية بصفاء قلوبهم...
"هؤلاء" الذين وهبهم الله نعماً و منحاً استثمروها في محبة الموحودين، و جبر المكسورين، و شفاء لقلوب أعياها الزمن.. فضاعف الله لهم الأمثال.. فأحسنوا إلى خَلْقه.. فزادهم، فزادوا إحسانا...
"هؤلاء" الذين ينفلت قلبها بالدعاء لهم بمجرد ان يمروا بخاطرها.. تنادي " يا رب" من أجلهم باخلاص حقيقي... تتمنى لو يمن عليها الله بمقدرة، تستطيع معها ان تغسل الهم عن قلوبهم.. و تكف الأذى عن طريقهم..
"هؤلاء" الذين حولوا ظلمات ظلم أيامها لـ نور...
"هؤلاء" الشموس الصغيرة..... يا رب ارض عنهم و راضيهم و فرح قلوبهم و اسعد ايامهم و ارزقهم راحة البال...
ـ**************ـ
"إنو عنجد ما أحلاه"... تقولها ريم بنا... فتبتسم و تدندن "مافيش كده.. ولا في المنام" و يهمس قلبها "يا رب حلّي أيامه..."
"قربك نعيم الروح و العين".. تقولها السِتّ.. فيفوّت قلبها دقة ليردد "يا رب انعم عليه بالخير و البركة..."
بمبررات او بدون.. مر بخاطرها أم لم يمر... فجأة، تدعو له!
و تكتب:
"و كلما ضبطت نفسي أدعو إليك دون انتباه ولا قصد.. تتزامن ملامحك مع خروج الدعوة من قلبي قبل لساني.. كمثل الفعل اللاإرادي، كالتنفس و انتظام ضربات القلب - إلا في حضورك -... كأم يلهج قلبها بالدعاء لابن غائب عن عينيها و لا يغيب أبدا عن قلبها.. أعرف مكانك من القلب (هو القلب كله).. فيتصل دعائي لك... و يزيد..."
فتزيد:
"يا خالق النور.. يا من جعلت له من النور نصيب، قَسّمَهُ راضيا مختاراً على قلوب أعتمها الهم، زد من نورك في قلبه و اسبغه على أيامه رضى و فرحة و اجبره.. يا خالق النور..."
و تضبط نفسها -للمرة الـ كم بعد الألف يا ترى؟! - تزيد من الدعاء.. "اللهم استجب"