عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Wednesday, March 20, 2013

عِــيــد الأم

الأمومة..

ذلك الوجود الغامض الذي هو أحد مفردات حياة أية فتاة منذ ولادتها.. فهي أول ألعابها منذ أن تعي، ثم تكبر لتكون أمّاً لأخواتها، ثم تكبر أكثر فتكون أما لزوجها، فتأتي الأمومة الطبيعية كشيء اعتيادي و فطري للغاية يكاد يُبذل بلا جهد و كأنه أمر روتيني تكرر كثيراً..

طوال سنوات كثيرة كنت أكره اليوم المسمى بعيد الأم! لطالما فكرت، لماذا لا يراعي العالم مشاعر هؤلاء مفتقدي الأم في حياتهم؟! لماذا لا يراعي العالم مشاعر النساء المفتقدات للأمومة لسبب أو لآخر؟! ما كل هذه الاحتفالات بلا مراعاة للآخرين؟!

أظن اني اول ما أخذت تلك الأفكار في اعتباري كان بعد وفاة جدتي لأمي... فقدتها امي و انا بعد في السابعة من عمري... فلم أبك جدتي افتقاد لها، و لكني بكيت افتقاد امي لها..
أذكر جيدا ان اول ما فكرت فيه حين وصَلنا خبر وفاتها "ياعيني يا ماما".. ثم تحول الأمر لعادة بكاء الأحياء ممن يخلّفهم ورائهم الذين ماتوا لا بكائهم هم، الذاهبون لمكان أفضل كثيرا...

كما أني لا أستطيع أن أجد سببا لبكائي كل مرة، بلا مبالغة، استمع فيها لأغنية "سيد الحبايب يا ضنايا" لشادية.  حين كبرت ظننت اني ربما بكيت بسبب معرفتي أن شادية لم ترزق الأطفال أبدا.. و لكني كنت دوما ابكي بمجرد سماع المقدمة الموسيقية لتلك الأغنية حتى قبل أن اعرف تلك المعلومة.. ربما أبكي توحدا معها، او تضامنا.. او تنبؤا بمستقبل يخلو من أطفال أتشاركهم مناصفة مع أحدهم..

و لكن، و برغم كل ذلك التاريخ من العداء لفكرة "عيد الأم".. و بما تكون لدي من عداء تجاه الأطفال نفسهم منذ عدة سنوات جعلني أزهد فيهم كل الزهد، زهدا حقيقيا مخلصاً لوجه الله تعالى و هو على ما أقول شهيد.. إلا ان الحال يختلف هذا العام!

لماذا؟!

لأني اكتشفت فجأة، كسطوع البرق في كبد السماء، أن لي أكثر من أم!

أكثر من أم انا جد محظوظة بوجودهم في حياتي و ممتنة لأمومتهم كثيرا بما يفوق كل قدرتي على التعبير..

أمي... رضوى... تلك التي هي أمي على البُعد.. أمي بالحروف و الكلمات التي أعادت تشكيل انسانيتي.. أعادت تشكيل وجداني.. التي غمرتني كلماتها حنانا و رقة و أمومة حتى بدون أن أراها... تلك التي تمنيت ان أقبل يديها اعترافا بفضلها علي بلا غضاضة و لا خجل لولا مخافتي من ان تشعر هي بالحرج.. أمي على البُعد التي يؤلمني ألمها و يشعرني بالعجز.. أمي التي أدعو لها بالشفاء بتضرع حقيقي و خالص إلى الله و هي لا تعلم و لن تعلم...

أمي... أميرة... تلك التي هي أمي الصغيرة.. التي أحيانا ما تلعب دور ابنتي.. و دائماً هي أختي و مرآتي.. تلك التي يربطنا ما هو أقوى من الدم.. تلك التي لا تبعدنا مسافات و لا زمن مهما طال كل منهما.. تلك التي هي ضمير حي لي، تلك التي تأتيني من حيث لم أنادها، فتربّت على قلبي بكلمة طيبة.. و نكتة.. و دموع غزيرة نتشاركها سويا... فتبدو الدنيا أقل سوءا مما هل عليه، و يصير العالم قابلا للتحمل لحين موعد التربيتة القادمة من قلبها على قلبي..

أمي.. أمينة.. تلك التي هي أم بالفطرة لكل من تعرف.. برغم طفولتها البادية رغما عنها.. تلك التي تشعرك بالأمومة كلما أدركت مدى قوتها و صلابتها أمام الزمن.. تلك التي تشعرك بالأمومة كلما أدركت كيف انها تستمد الحنان من فيض حنانها على الآخرين.. شاءت أم لم تشأ.. تلك التي تتهاوى كل أقنعتها فتصير طفلة بقلب أم في ضحكة جزلة في لحظة جنون لا أشاركها أحد سواها..

أمي.. روضة.. تلك التي رأت اني شببت عن الطوق فتركتني لعالمي لا تروم تدخلا فيه.. و لا تعتب نأي عنها.. تلك التي أخفت آلامها حماية و محبة و حنانا.. تلك التي لم تطلب يوما بل كانت دوما مانحة.. تلك التي أكدت لي في يوم من الأيام أن الصداقة ليست بالوقت، و لهذا فانا دوما مقصرة تجاهها .. تلك التي أشعر بالتقصير و الضعف كلما رأيت ابتسامة رضاها في وجه زمن عبثي.. تلك التي تذكرني كيف تكون القوة الحقة...

أمي.. مروة.. تلك التي بلا مجهود تفيض حنانا و قربا يجعلها تبدو كأنها بقلبك من قبل أن يوجد قلبك، و كأنه خلق و هي فيه.. تلك التي في كل مرة بهدوئها و رصانتها تشعرني اني طفلة متهورة تحتاج لكثير من التعقل.. فأنهل من نهر حكمة تتفوهها في بساطة و تلقائية و بلا تكلف فأتعلم مع كل حرف، و موقف، و لفتة، و حكاية معنى ان تكون - حقاً - إنــســان.. معنى أن تكون ناضجاً حقا لا ادعاءا.. تلك التي يتوارى غضبي خجلا في حضرتها..

أمي.. شيرين... تلك التي تغلف تعاملاتها بكل الأقنعة الواهية الهشة التي سرعان ما تتكشف عن حنان مغرق.. تلك التي تبذل الكثير لأسعد.. تلك التي تخفي شكوتها و ألمها مهما اشتدا حتى لا تزيد من هامش الحزن و لا الأسى في يومي.. تلك التي أتعلم منها الكبرياء بلا تكبر.. التي تفرض على العالم رقياً برغم كل سوقيته.. هي الأم التي تعلمك الإتيكيت و الذوق و الأصول بمنتهى التلقائية و بدون محاضرات.. تلك التي تشعر أن البوح ابتذال فتهوّن عليك كل ما يؤلم بتساميها عن الألم..

أمي... مريم.. تلك التي لن تدرك أني أراها أماً.. هي حقاً تذكرني بأمي الحقيقة.. بصخبها و حبها للحياة، تماماً كأمي.. تلك التي تبكي خوفاً علي، تماما كأمي.. تلك التي تروض ثورات غضبي بصمت متفهم كلما انفجرت امامها، تماما كأمي... تلك التي لم استطع يوما ان اغضب منها حين اخطأت، تماما كأمي.. تلك التي بكيت خوفا عليها، تماما كأمي، و انا لا املك لها من حيلة سوى أن أكون هنالك.. تلك التي لن تعرف أنها تعني لي كل ذلك، تماما كأمي...

و بناتي الحبيبات... مرام و مارلين.. أولئك الذين منحوني من الصبر و الحب لألعب انا دور الأم معهم.. حباً و شعورا بالحماية.. و شعورا بالفخر و الاعتزاز... بناتي الحبيبات اللاتي لم اكن لأنجب بناتا افضل منهن و لا أحسن خلقا و لا أخف ظلا.. لم أكن لأنجب من يسمعن لي مثلهن و يتركنني ألعب دور الأم بحرية مثلما يفعلن.. بناتي الحبيبات.. اللاتي لم تحملهن بطني و لكن يحملهن قلبي.. فرحة لفرحهن و ألما لألمهن و فخرا بكل ما يملكن من قوة و عناد..
ملحوظة: "مرام الكبيرة يا مارلين و أول فرحتي.. مافيناش من زعل!" ;)

أمي... جيهان... التي التي أعطتني عمرا.. و اسما من قبل ان أولد.. تلك التي دفعت ثمن حياتي من دمها و دموعها و ايامها انتظارا طويلا... تلك التي أتمنى ان تطال يداي نجوم السماء لأرصفها طريقا تحت قدميها... تلك التي تحيل ايامي جهنما حمراء و برغم ذلك تبدو الجنة قليلة عليها... تلك التي أدرك حقا و صدقاً انها قدمت لي أفضل ما تملك يداها، بل كل ما ملكت يداها من حب و وقت و مال و خوف علي... تلك التي تمرض حين أحزن... تلك التي صارت تلعب دور ابنتي منذ ست عشرة سنة و تغضبني منها ولا اغضب عليها ابدا.. تلك التي اغضبها كثيرا جدا و احيل قلبها نارا و حطاما بكلماتي و لا تغضب علي ابدا.. تلك الطفلة العنيدة، المحرومة، الشقية، المتخفية وراء صفات برج الأسد و لكني أدرك تماما مقدار هشاشتها.. تلك التي لم تحقق من أمانيها شيئا سواي فلا تخيب املها في يا الله.. و اجعلني لها قرة عين في حياتها.. و دعاء و عملا صالحا في آخرتها.. و شفعها في يوم العرض عليك يا من خلقت الرحمة في قلوب الأمهات ليعمر العالم برحمتك على ايديهن...

يا كل أمّهاتي.. يا من تعرفن مقداركن لدي و يا من لن تعرفن ذلك أبدا لتقصير مني، او خجل، او بُعد...

كل عام و أنتن بخير..
انتن من جعلنني أحب عيد الأم لأول مرة من ثلاثين عام.. و أنتن من تجعلن لي شيئا في هذا العالم.. انتن من تبقينني على قيد الـ حياة ... حقاً لا تماهياً..


No comments: