عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Sunday, May 10, 2015

الكتاب وانا

أمي هي صاحبة الفضل اني اتعلم القراية.. بصبر ودأب، علمتني الحروف وتركيبها لما يكون كلمات، وتميت اربع سنين كنت باعرف أقرا.. ولو ماعملتليش اي حاجة تانية في حياتي فكفى به فضل! 


وكطفلة وحيدة، عاشت أول 4-5 سنين في حياتها في حياة اجتماعية محدودة جدا، لظروف سفر الوالد.. ماكنتش باشوف أطفال تقريبا خالص وأغلب اللي باتعامل معاهم كُبار.. زمايل والدي وزوجاتهم وقلة منهم كانوا معاهم أولاد.. وأقرب شيء للأطفال اتعاملت معاه في المرحلة دي كانوا أطفال أكبر مني سناً بشوية.. فعشت فترة مش قليلة قدرتي على التعامل مع الكائن المسمى "أطفال" تكاد تكون معدومة، بالرغم من ان قدرتي على التعامل مع الكبار ماكانش فيها مشكلة، احترام فرق السن موجود لكن بدون تهيب مبالغ فيه.. وفي نفس الوقت كنت باخاف جدا من الأطفال اللي ممكن أقابلهم في طريقي وكنت بالتزم صمت الحجارة لو اتجمعت مع أطفال في مكان واحد.

مع الظروف دي، وتكوين الشخصية ده، كانت القراءة هي الملاذ الأوحد. وكنت كمان معتبراه الملاذ الأكثر هدوءا ومنطقية! 

ماكنتش بافهم ايه الممتع في الجري ولا الصريخ ولا الدوشة اللي بيمارسوها الأطفال دي! والحاجة الوحيدة اللي كنت أصبو إليها كطفلة، كان "عجلة".. كان نفسي يبقى عندي عجلة اركبها وألف بيها.. وماكانتش مجرد أمنية، كان حلم.. طموح.. هدف منتظرة اليوم اللي هايتحقق فيه.. وماتحققش لحد النهاردة.. 

غير العجلة، ماكانش فيه أي حاجة تلفت نظري في ممارسات الأطفال في اللعب خالص.. ولا حبيت أنزل العب في الشارع مثلا.. بطبيعة الحال ده كان هيعرضني للتعاطي مع أطفال آخرين، وده كان كافي تماما لانتفاء الفكرة من راسي. 

فيتبقى لي القراية.. أي حاجة وكل حاجة تقع تحت ايدي اقراها.. بس كنت جبانة برضه.. يعني كنت أخاف اقرا حاجة ماتعجبنيش او أحسها هاتبقى معقدة بالنسبة لي.. ماعرفش ليه! كنت مركزة على الحاجات اللي "عارفاها".. والجرايد والمجلات دي كانت بتتذاكر، مش بس تتقري.

وابتديت أطور اهتمامات، مجالات بعينها أحب اقرا فيها يعني.. السينما.. صفحة السينما يوم الاتنين (أيوة زمان كانت بتبقى يوم الاتنين) اللي كانت من اعداد يوسف فرنسيس دي كانت سحر بالنسبة لي.. 

العربيات.. ملحق السيارات وتفاصيل العربيات الجديدة والعربيات "الكونسبت" وايه بكام وضرايب العربيات والكلام ده كله، لو كان ليا أصحاب ولاد في السن ده، كان هيكون ده محور حديثنا بالتأكيد! 

الأدب.. لما عملوا ملحق الأدب في الأهرام يوم الجمعة، كنت بافصصه.. وبريد الأهرام ياما سحيت عليه.. وكانت بتبقى فرحة العمر لما يكون ليوسف فرنسيس قصة في الملحق، أو يكون مقدم لوحة من رسمه لقصة منشورة في الملحق.. او يكون له قصة ولوحة مع بعض! كنت بانهبل رسمي، وكنت باقصقص القصص اللي تعجبني والزقها في كشكول.. لسه عندي.

وطبعا أي حاجة مناسبة لفئة سني العمرية كنت باقراها.. او مش شرط مناسبة أوي، بس تكون مسموحة من الرقابة.. بمعنى انها منشورة تبع حاجة معروفة، وموجودة عند عم محسن بتاع الجرايد اللي كان على ناصية شارعنا.. ده كان بيخليها واخدة ختم الموافقة، فمن حقي أمد إيدي عليها اشوفها بتتكلم عن ايه، ولو لفتت انتباهي، ماما هاتجيبها لي واقراها ، ولو عجبتني هاتجيبلي ما يشبهها تاني.. وعموما زيارة فرشة عم محسن دي كانت متكررة، فماكانش بيغيب عن عيني أي مستجدات.

طبعا مش محتاجة أقول ان معرض الكتاب زيارة مقدسة من وانا عندي 8 سنين ولحد دلوقتي.. باكتئب لو حسيت، مجرد احساس، اني احتمال ماقدرش أروح.. بس كل سنة لازم ازوغ م الشغل او حتى آخد اجازة واروح!

يمكن كنت الطفلة الوحيدة اللي قرت "كتاب اليوم" و "كتاب اليوم الطبي" قبل روايات مصرية للجيب.. وكتب د. عادل صادق الله يرحمه، هي اللي خلتني حددت اتجاهي في الحياة، من سن 10 سنين، اني "هادرس" علم نفس.. مش "عاوزة ادرس" أو "بافكر أدرس".. لأ.. انا بكل حسم هادرس علم نفس.. بس ماكنتش محددة وقتها هايبقى عن طريق طب ولا آداب.. بس بمنتهى الأمانة الاتنين كانوا متساويين قدام عيني تماما.

ما بانساش نظرة الهلع في عين عم محسن وماما لما طلبت منه كتاب "نساء عاريات".. الراجل كانت هاتجيله سكتة قلبية! وماما لولا الملامة كانت لطشتني كف في الشارع، بس مسكت نفسها وسألتني "نعم؟!" قلت لها ده كتاب د. عادل صادق، تبع كتاب اليوم.. ويمكن كانت اول مرة اشوف حد بيتنفس الصعداء ساعتها.. طبعا الكتاب ده اتفصص قبل ما امسكه حتى، عشان يتأكدوا في البيت انه مش كلام "ابيح" ولا حاجة.. كان كتاب عن حالات لنساء في العيادة النفسية.. بس العنوان كان لازم يبقى لوذعي طبعا.

فاكرة في يوم شوفت د. محمد شعلان، أستاذ الطب النفسي، الله يرحمه، في السوبر ماركت.. وكنت هايغمي عليا من الفرحة كأني شوفت سوبر ستار! وماما اخدتني له وقالت له بنتي متابعاك في البرامج عشان نفسها تدرس علم نفس.. الراجل انتظر يشوف بنتها دي شابة راشدة مثلا، فوجيء ببطة صغيرة كده عندها 11 سنة فاندهش جدا بس كان في منتهى اللطف.. مش فاكرة قالي ايه من كتر ماكنت فرحانة ومبهورة.. بس فاكرة فرحتي كانت عاملة ازاي.

"القصة" اللي كانت بتدرس لنا في المدرسة كانت بتخلص في خلال يومين من استلام الكتب! كنت باحب اقراهم بعيدا عن الدراسة والامتحان والغلب ده.. ما عدا قصة الصقر الجريء -للي يفتكرها يعني - اللي كانت شنيعة، ما طيقتش اقرا فيها صفحتين وعشت انا والناس نتعذب بيها عذاب السعير طول سنة تالتة اعدادي.. يجحمه ده صقر مطرح ما راح!

في يوم ماما جابت لي عدد من أعداد رجل المستحيل.. لو كنت باملك من مفردات هذا الزمان حاجة كنت قلت لها: "ايه الهرت ده؟!" مين ده اللي قد الكف وبيقتل مية وألف وبيتشقلب في الهوا ويتفادى شحروميت رصاصة وهو بيركل حوالي اتناشر ألف واحد بيهاجموه في نفس اللحظة!! ماحبيتهاش لحظة! ولا زهور ولا عبير وما شابههم! كان "هرت" غير منطقي ولا مبرر خالص بالنسبة لي وأظن اني حتى ماكملتش العدد اليتيم اللي ماما جابته وقلت لها ماتجيبيليش العبط ده تاني! 

لكن في واحدة من زياراتي لفرشة عم محسن، لقيت عدد معنون "اين الشيطان".. من سلسلة ملف المستقبل.. يمكن كنت 12 سنة وقتها.. وكانت بداية قصة غرام بيني وبين المقدم نور الدين محمود وفريقه... وكانت صورة "نور" اللي كانت بتبقى في اول صفحة في الكتيبات، تاني صورة أرسمها في حياتي.. وكان الاستاذ اسماعيل دياب الله يرحمه هو من رسم صورة خيال فتى أحلامي... وبكيته بكاء حقيقي لما توفاه الله.

وإذ صدفة، وانا في رحلة البحث عن أعداد الصيف من ملف المستقبل، ولأن على ايامي ماكنش فيه مكتبات ناحيتنا خالص.. المكتبة هي المحل اللي بيبيع أدوات مدرسية وكتب خارجية فقط. أما كتب التسالي والقراية، دي ممكن تتوجد عند بائعي الجرائد فقط وبالصدفة، او بالكتير يعني، وعلى حسب المنطقة، في أكشاك توزيع الأهرام.. وفي هذا الصدفة المجيدة.. في صيف 93، صادفت أول كتيب من سلسلة ما وراء الطبيعة.. اللي لسه أصحاب لحد دلوقتي، وبقية كتابات د. احمد خالد توفيق.

مكتبة الأسرة هي الفضيلة الوحيدة اللي عملها النظام السابق على مدار 30 سنة! برغم انها كانت سبوبة للسرقة والمجاملات والتحيزات والحاجات المعتادة، المدموغة بالختم المصري في أي مشروع، لكنها برضه كانت نافذة على كتابات متعددة، منها الكلاسيكي اللي كنت بدأت أكتشفه وقتها، ومنها الحديث نسبيا.. وكانت فاتحة خير عليا.

أول كتاب أثر فيا وفتح عينيا على عالم الأدب، برة ملحق الجمعة وأعداد المؤسسة، كان من مكتبة الأسرة.. وللغرابة كان معنون "بنت الشيطان" برضه! مجموعة قصصية لمحمود تيمور، اللي وقعت في هوى أسلوبه من ساعتها.. 

ولأني باحب الشعر.. مكتبة الأسرة عرفتني على صلاح عبد الصبور وأمل دنقل قبل اللي كانوا بيدرسوا لنا عربي.. ده غير شعراء تانيين كتير، بس دول كان لهم أكبر الأثر على نفسي. 

مازلت لحد دلوقتي قارئة مخلصة للأدب.. رواية وقصة وشعر ونثر.. مازلت ماطورتش اي اهتمام بقراءة كتب عن السياسة أو التاريخ بصفتهما.. يعني اقرا رواية تاريخية أهلا وسهلا.. رواية ليها اسقاطات سياسية، ما يضرش.. وده نقص كبير طبعا، لكني ماكنتش مهتمة أعوضه زمان، ودلوقتي بقيت مش عاوزة أعوضه بعد اللي احنا عايشينه بنفسنا ده بقالنا كام سنة.

لما بدأت أشتغل، ميزانيتي اتسعت لشرا الكتب.. مابقيتش محتاجة اشتري كتاب مايزيدش تمنه عن 5-10 جنيه! وفاكرة ان اول كتاب غالي اشتريته كان بـ 80 جنيه.. كان كتاب the Zahir والكلام ده كان سنة 2005 او 2006.. والناس اتفزعت - فزع حقيقي - ازاي ادفع المبلغ ده في كتاب! 

حقاً وصدقاً، ده كان أول سبب يخليني احس بالامتنان لفكرة اني "باشتغل".. وقعدت اقول لنفسي، اللي كانت كارهة الشغل وكارهة المواصلات وبهدلتها بسبب الشغل: ما هو لولا الشغل ماكنتيش قدرتي تشتري كتاب بالسعر ده وانت راضية! كنت هاتقدري تروحي تطلبي مبلغ زي ده من ماما؟! لأ طبعا! يبقى تحمدي ربنا ع الشغل.. هو ده اللي هيخليكي تعملي اللي نفسك فيه.. اسكتي بقى وبطلي نواح! 

توالت الكتب بعدها بقى، بدون التفات لأسعار.. ولما كنت باركب مواصلات، كان الكتاب صديقي في الرحلة.. 

اللي خلاني افتكر الرحلة الطويلة دي، 31 سنة تقريباً، اني رجعت لصديقي الأول مرة تانية.. 

كنت كل ما اشوف عندي كتب قد ايه لسه ما قريتهاش، أتحسر، واحس بالذنب.. كأنهم اصدقاء ما بسألش عليهم.. وكنت فعليا أكلم الكتب واقولهم، حقكم عليا، مصيرنا نتجمع.. وافكر، هو انا هاجيب وقت منين لده كله؟ فكنت أحس بالغيظ من الوقت اللي بيضيع في الشغل.. كنت باحس، ومازلت، شايفة ان الوقت ده أولى بيه القراءة والسينما بشدة.. واني لو ألاقي ما يقيم أودي، لتركت العمل بلا لحظة تردد ولا تفكير وتفرغت لما أحب.

رجعت لصديقي الأول عشان بطلت أسوق، ورجعت أركب مواصلات من تاني.. وهي دي ميزة المواصلات الوحيدة على الاطلاق! 

لا أبالي اطلاقا بمن حولي، فأبكي او اضحك بحسب ما يمليه علي صديقي في المواصلات دون تفكير كثير او قليل في فضول الناس وما يفعله بالناس..  

اللي شاغلني بقى من فترة، ان ازاي الواحد بيحن للأصحاب القدامي.. ده طبيعي وبيحصل.. بس كام صاحب قديم لك عنده استعداد يقبلك ويستقبلك بعد غيبة، وبنفس الحب والاخلاص؟ من غير ما يعاتبك ولا يأنبك؟ مافيش! انا نفسي باهري اللي يغيب واللي يتأخر عتاب وتأنيب.. أو كنت.. دلوقتي بطلت.

هل فيه روابط بتتخلق بيننا وبين "الحاجات" اللي بنحبها فعلا، أقوى من الروابط اللي بتتخلق بيننا وبين "الناس" اللي بنحبهم؟ 

هل للأشياء ذاكرة قادرة على الغفران والتجاوز، لا يمتلكها الناس؟ 

لأسابيع، كنت -ومازلت- مشدودة جدا، وباقاوم انفجار الغضب جوايا، لأني مش عايزة أرجع أبقى شخص غاضب تاني.. أيا كانت سخافات الدنيا والناس ما تستاهلش.. هكذا أُذكر نفسي.. لكن الصراع ده مخليني صبري قليل، جدا، اكثر من المعتاد.. وقدرتي على تحمل البشر وسخافاتهم واستخفافاتهم ضئيلة جدا.. صراع مستمر بين الغضب والسيطرة عليه.. عشان نفسي قبل ما يكون عشان "ماحدش يزعل مني".. صراع مستمر بين رفض "رثاء الذات" والعودة للشكوى والبكاء وبين تذكير النفس بإن "هذا، أيضا، سيمُر" وعليه، لا داعي للغضب او الانفجار اللي مش هايضر حد إلا انا..

الصراع ده ما بيسكتش غير لما أمسك كتاب واقرا.. كأنه شخص فضولي راكب جنبي في المواصلات، أول ما افتح كتاب ينهمك في اللي باقراه معايا، وينسى انه كان لسه بيتخانق.. ينتبه انه كان بيتخانق لو بصيت من الشباك مثلا، أو لفت نظري حد بيقول او بيعمل حاجة.. فارجع بسرعة أحاول اسيطر عليه تاني واقوله: "بص، كتاب اهو" فيسكت..

يتقد ويفنجل ويبقى على أهبة الاستعداد للانفجار وانا باتعامل مع الناس.. ومحاولاتي المرهقة للسيطرة عليه بتبقى في ذروتها.. ثم يخمد بمجرد ما اطلع الكتاب من شنطتي..

امبارح، لأول مرة من أسابيع، أحس بهدوء واستعيد سلامي النفسي المفقود، واللي كنت وصلت له بشق الأنفس، لما اشتريت كتب كتيرة ومشيت دراعاتي هاتقع من تقل الشنط اللي فيها الكتب.. حسيت اني خفيفة برغم تقلهم.. حسيت اني راضية عن العالم، برغم الزحمة والحر والمشوار وما زادني رهقاً من سخافات الناس..

تلقاني الصديق القديم بنفس راضية مرة أخرى.. لا لوم ولا عتاب ولا تأنيب.. طبطب عليا.. خدني في حضنه ورجعني العيلة الصغيرة اللي كان لها الورق صاحب.. أثبت لي انه هو الأوفى.. مش عشان الناس وحشة، لكن عشان هو الأحلى..  

شكرا يا صديقي على وجودك في حياتي.. 

شكرا لكل صديق لقيته جنبي وقت ما كنت بابقى كارهة الحياة، وحاول يرجع لي احساس بالامان والهدوء.. سواء كان من ورق او من لحم ودم.. وأوعدكم، اني هاحاول اصفي حياتي من أي ناس/حاجات بتاخد مني وقت انتوا أولى بيه.. 

2 comments:

Anonymous said...

من كتر الضيق ومشاكل الشغل والتأنيب بالوقت الرايح على اكل العيش، قولت أقرى شوية بما ان ده المهرب الوحيد
دخلت أقلب في التدوينات اللي لسة متقرتش عشان ألاقيكي بتتكلمي عن نفس المشكلة والمهرب!
:)

Ayat said...

مافيش أحلى منه مهرب :)

مضمون وموجود دايما..

Enjoy :)