عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Sunday, December 24, 2006

المـــوت

ليست تجربتى الأولى مع الموت .......... كنت الطفلة الوحيدة من أطفال العائلة التى علمت بموت جدتى الوحيدة الباقية .. أقصد التى تبقت من أجداد لم أر منهم أحداً سواها ..كنت فى السابعة من عمرى . مرضت فجأة و ماتت سريعاً .. أذكر ذلك اليوم جيداً .. أذكر أنى لم أحزن لوفاة الشخص الوحيد الذى يربطنى بعالم الأجداد الساحر بما فيه من حكايات و هدايا و تدليل .. كل ما فكرت فيه ساعة سمعت الخبر هو أمى .. فكرت كم ستحزن أمى بشدة ..و كم ستبكى .. شعرت لحظتها بألمها .. بوحدتها دون أم ... بالفراغ الذى ستتركه جدتى فى قلبها كأمها .. و فى حياتها ....... كنا نعرف أنها ستموت .. أخبرنا بذلك الأطباء بتقاريرهم الطبية .. و أخبرنا أبى بأحلامه المتنبئة بمثل هذه الأمور و التى لم تخلف ميعاداً قط .. عرفنا .. علمنا .. و كنا على شبه يقين .. و لكن ما من شىء على الأرض قد يجعل أى إنسان مستعد لتلك اللحظة .. لحظة سماع الخبر .. أو رؤية نظرة آسفة حزينة تخبرك أن كل ما كان قد كان ولا يبق إلا وجه الله الرحيم.. كنت أعلم أن أمى تبكى أمها ليلاً و لم أكن أملك من أمرى حيلة لأخفف عنها ألمها . و الآن .. لاأذكر كيف تماسكت و كيف إستسلمت للفكرة و طردت دموع الحزن من عينيها .. ببساطة لاأذكر ...د
بالطبع مرت علىّ الحياة بما لا أنتظر و لا أكترث له كثيراً من وفيات فى العائلة لأقارب .. أذكر أنى حزنت على إبن عمتى الذى توفاه الله شاباً مخلفاً ورائه إبنة فى السادسة و إبناً فى الثالثة لم يكن بدأ بعد فى تكوين جملاً حوارية طويلة نوعاً .. ربما حزنت على أطفاله .. ربما حزنت لأنه كان خفيف الظل حاضر الضحكة دائماً .. ربما لأنه كان دوماً ينادينى بإسم إبنته رغم إختلاف إسمينا تماماً فى الحروف ..ربما لكل تلك الأسباب .. لا أذكر تحديداً سبب حزنى عليه .. ببساطة لا أذكر .. د
فى صيف 96 توفى جد صديقة طفولتى .. و الذى كنت أعتبره جداً لى .. كان يعاملنى مثلما يعامل حفيدته/صديقتى .. إن سافر أحضر لى هدايا مثل ما أحضر لها ... و نفس "العيدية" فى العيد .. بكيته كسحابة شتاء محملة و متحمسة للإمطار بغزارة .. فكرت فى إبنته/أم صديقتى .. فى ألمها .. و كيف أنها كانت تحتمى به من كثير من أزمات الدنيا رغم سنين زواجها الطويلة .. لا أنسى يومأ جملة قالتها من بين دموعها .. "حاسة كأن سجادة إتسحبت من تحت رجلى فجأة و ما تحتهاش أرض" ....... كنت فى ذلك الوقت فى السادسة عشرة .. أعى الأمر تماما .. أعنى أنى كنت قد وعيت فكرة الموت و الفراق و الألم تماماً .. أو هذا ما ظننته .. حتى صححت لى الأقدار مفهومى الخاطىء .. و إن كنت لم أرغب يوماً فى ذلك التصحيح و لم أسع له أبداً و لكنها إرادة الله ...د
فى الصيف التالى مباشرة توفى الله أبى ... كنا نعلم انها النهاية لا ريب .. و أنه لا مجال لأى شىء من أى نوع سوى معجزة من الله العلى القدير .. أخبرنا بذلك الأطباء بتقاريهم الطبية .. و أحلام أبى التى كانت لا تزال متنبئة بمثل تلك الأمور ... أذكر يوم قالت لى أمى " أبوكى روحه متعلقة بنتيجتك .. قلبى حاسس إنه مستنى يعرفها وبعدين يموت" ... لم أكن يوماً أكثر تصديقاً لكلام مثل ذلك الكلام .. و لم أكن يوماً أكثر تصديقى لعينى من تلك الأيام ... كنت أراه يبتعد ... و كأنه على متن طوف خشبى تحمله أمواج هادئة بتؤدة بعيداً .... و كلما وجد نفسه يبتعد عن شاطئنا .. يحاول جاهداً أن يقترب مرة أخرى ... بضحكة .. بنظرة طويلة فى وجهى و انا أحكى له حكايا غير ذات معنى ... فى محاولة منى لمساعدته على البقاء قرب شاطئنا ... أو بقائى قرب الطوف الذى يحمله ... و لكن يوم نتيجة الثانوية العامة له ميعاد معلوم .. و الذى كان فيه ميعاد أبى المعلوم بعد أن إطمأن فعلاً على نتيجتى .. و طلب من أمى أن تزغرد لى فى البيت فرحاً بالنتيجة ..و أسلم روحاً تألمت كثيراً فصارت تنشد راحة أبدية لدى خالقها ... و لأنى إعتدت فكرة الموت .. دخلت عليه بعد وفاته .... بكيت على صدره .... تأملت وجهه الطيب ... لم يفزعنى أن عينيه كانت تنظرا نحوى ... كانت عمتى بالغرفة و أخبرتنى أن: انتظرى قليلاً .. لا أدرى للأمر تفسيراً .. كيف إرتفعت جفونه لينظر نحوى .. و كيف إنخفضت ثانية ... و لم أسع لتفسير الأمر .. كفانى أنى رأيت لآخر مرة عيونه الحبيبة تنظر لى نظرة طويلة ... و لم أبك بعدها ثانية ... و لاحتى قبل نومى .. و رغم أنه أقام فترة بمستشفى و بعيداً عن المنزل إلا أن البيت كان مختلفاً تماماً حين عدنا ذلك المساء ... جاء الناس يبكون و يستغفرون للرجل الطيب الذى مات ..و يوم الدفن .. و عند المقابر .. كنت هناك .. أرقب المشهد بمنتهى الوعى .. أحاول أن أحفظ الطريق الى المقابر .. و أن أعرف إسم "التربى" جيداً .. و ان أذكر ما يقوم به الناس من دعاء و خطوات الدفن ... و قام شخص ما من بين الناس .. إعتلى كرسى حتى يظهر لآخر الصفوف و يصير صوته مسموعاً ... و أخذ يدعو .. دعاء لم أسمع مثله من قبل و لا من بعد ... و إنهمرت الدموع من عيون الوقوف .. فى صمت مهيب .. و صمتت المقابر رغم ما فيها من جمع غفير من متبعى الجنازة و من سكانها .. لا يسمع إلا صوت الدعاء فقط .. و الناس تؤمِّن فى صوت خفيض خفيض .. و لم أبكِ ... لم أحزن ... لم أحزن على إبنة ذلك الرجل التى قد تعانى من إحساس إنسحاب بساط من تحت قدميها دون أرض تحته .. أو تكون بدأت تستشعر فراغاً فى قلبها و حياتها خلفه أباً طيباً لم تر منه يوم قسوة واحد طوال سبعة عشر عاماً .. لم أحزن لأنى شعرت بذلك الفراغ يُملأ .. فراغ قلبها .. و الفراغ بين الواقفين .. حتى الهواء نفسه إمتلأ .. و شعرت يومها أن ما يغطينى و يكسينى من قمة رأسى لأخمص قدمى ليس الملابس .. و لكن سكينة من الله ... شعرت و كأن الهواء الذى يلفنى و الذى أتنفسه قد إمتلأ به سبحانه و تعالى ... شعرت بأمان و هدوء لم أشعر به يوماً ... شعرت كأن هناك من وضع يده على رأسى بهدوء ... مثلما كان يفعل أبى و هو يقرأ لى القرآن ليلة الإمتحان لكى يهدىء من روعى ... كنت أبكى كلما فعل ذلك .. غالباً ما كان يظن أن بكائى لرهبة من الإمتحان ... و لكنى كنت أبكى من فيض الحنان الذى كنت أستشعره من بين أصابعه على رأسى ... من فيض الحنان الذى أستشعره فى قلقه علىّ ...... غالباً لم يعرف هذا .... شعرت بنفس فيض الحنان يغمرنى .. ولكنى لم أشعر برغبة فى البكاء .. شعرت بسلام ... فدعوت له فى قلبى .. مع دعوات لسانى .. و علمت أن سلاماً حلّ على من حيث حلّ عليه هو ... أَبَىْ أن يرحل دون أن يشركنى معه فيه ..... فتركته فى سلام ....... صار الموت يحمل لى معنى خاص بعد وفاته ..... و صارت كل الحكايات تنقص شيئاً ما .. مازالت لم تُحكَ لأبى .... لا تمر هذه الأيام ذكراه .. ذكراه تمر أبداً كل يوم ... ولكن لابد من تذكرة بوفاة أى شخص قريب .. وفاة أم صديقة .. لم أبكِ موتها .. ولكنى بكيت فراغاً ستتركه فى حياة ثلاث بنات تركتهن على توقع و شبه يقين بوفاتها ... أبكى عليهن .. و على فراغ تركه أب فى حياة إبنته .. لم تبكه يوم وفاته .. لأنه ترك لها سلاماً و سكينة ... و لو مؤقتاً .... فسلام عليكم جميعاً قوم مؤمنون ... أنتم السابقون و نحن اللاحقون ........د

6 comments:

Anonymous said...

ياااااااه
فكرتيني بمن كان في وفاته أشد الأثر في طباعي و نفسي
كم أتمني لو أستطيع يوما أن أتكلم عنهم كما تكلمت أنت

Ayat said...

بالتأكيد تستطيع الكلام عنهم طالما كان لهم أثر فى حياتك و نفسك .. يسرنى مرورك دوماً و تعليقاتك تنم عن درجة وعى لها وزنها .. فى انتظار دوام التواصل إن شاء الله

yuri said...

u pushed me back for manythings...i think u r sooooooo romantic wish u have a nice day

Ayat said...

Yuri:
you too have a very nice day :) and welcome to the blog sphere ;)
p.s. i'm not that romantic :))

ihapoof said...

الموضوع جميل قوى .. رغم انه بيتكلم عن الموت بس أسلوب الحكى قد أيه هادئ ورقيق ويحمل حزن وأيمان عميق

ربنا يجعلهاأخرالأحزان
(ان شاءالله)

Pleased to meet u

Anonymous said...

hi ana sara enti ma7zoza awe awe law enti mesh 3arfa keda kol ra7ma li babaki ana aretlo el fat7a ...